قصة
تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان .... الحلقه 3
نقلا
عن الطيار
: Suliman Elshtiti
01
نعم فكرت أن الاستمرار بهذا الروتين في
الأسر سيتسبب لي بمشاكل صحية و نفسية كبيرة ، فقررت أن أغير من نمط حياة الأسر .
وأول شيء قمت له هو إصلاح أرضية العشة . حيث قمت بنزع الحجارة و تسوية الأرضية و
قمت بعجن الطين و عمل لياسة الأرض . و ذلك حتي ضمنت عدم تواجد الحشرات التي كانت
متوفرة بأنواع عجيبة وخطيرة أذكر منها نوع يسمى " توكتك " هذه الحشرة لا
يحلو لها وضع بيضها إلا في أصابع اليد أو الرجل ، ولن تكتشف ذلك إلا بعد أن يفقس
البيض و ترى الحشرات تكبر داخل الأصابع ، و كذلك يوجد نوع من الديدان تدخل الأرجل
و تكبر ، و يتم اخراجها عن طريق وضع الأرجل في مياه النهر الباردة صباحًا أو
مساءًا و بعد أن تخرج رأسها يتم لفها على عود برفق حتى لا تنقطع ، و يتم الاستمرار
في اخراجها أيام ، و إذا قطعت تنمو في الداخل من جديد
!
لقد حرصت أن تبقى الأرضية مستوية منعًا
لتواجد أي نوع من الحشرات
.
و تعلمت منهم صناعة الزير ــ الذي يوضع
فيه الماء ــ ، و طريقة الصنع : أن يُجمع الطين بغربال حتى يكون ناعمًا جدًا ،
ويعجن بالماء كثيرًا و يقطع قطع صغيرة و يبرم مثل عمل الكعك ، و يتم تشكيله حتى
يعطي الشكل المطلوب ، ثم يتم مسحه بخرقه مبللة حتى يستوي شكله ، و يترك حتى يجف ثم
يوضع داخل النار كي يفرّغ من الهواء تمام
..
حاولت صناعة زير خاص بي ، و نجحت في ذلك
ووضعت على أعلى الزير خرقة لتصفية الماء و بدأت أشرب منه مياه نقية بعد أن كنت
أشرب من جالون
.
لفت انتباهي أثناء إشعال النار ، أن
هناك عود من الحطب يخرج منه رائحة طيبة حين يلامس النار ، أخذت منه قطعة و قمت
بكسرها إلى أجزاء صغيرة جدًا ، و استخدمتها كنوع من العطور ــ بخور ــ بعد أن صنعت
إناء أضع به بعض الجمرات و أرش عليه من أعواد البخور
.
و صنعت طاولة من الخشب ، و كنت كلما
اذهب إلى النهر أعود معي باقة من الزهور التي لم أشاهد مثلها اطلاقا و هي متوفرة
هناك بكثرة ، وكنت أضعها في إناء به ماء و كان لها دور كبير في تغيير الجو داخل
العشة .
حاولت و نجحت في تحديد الوقت ، كنت مع
دخول أشعة الشمس أسأل أحدهم عن الوقت و أضع علامة عند السادسة ، والسابعة ،
والثامنة ، وهكذا . حتى أنني لم أعد بحاجة للسؤال عن الوقت . صنعت مسبحة من نوى
الثمرات ، قمت بثقبها و هي خضراء و بعد أن جفت نظمتها في خيط ، وأصبحت أملك مسبحة
، صنعت بعض الأدوات الرياضية من الأخشاب و مارست الرياضة ، وتعلمت النحت على الخشب
، و الآن طورت هذه الهواية ، تعلمت الرسم ، ولما كانوا قد أحضروا لي "
منفيستو " الحركة ، وهو الميثاق الخاص بالحركة الشعبية لتحرير السودان التي
يقودها جون قرنق مطبوعًا ، فاستغليت الوجه الثاني للأوراق في الرسم بعد أن تحصلت
على قلم رصاص ، و الآن طورت هذه الموهبة أيضًا
.
حاولت كتابة الشعر و لكني للأسف فشلت !
حاولت قدر المستطاع أن أشغل وقتي و أن
أحافظ على صحتي ولياقتي ، كنت أحاول أن أمتع نفسي بمشاهدة أنواع الطيور الغريبة و
الجميلة جدًا و التي لم يسبق لي أن شاهدت مثلها بألوانها الرائعة الزاهية ، و كذلك
أنواع الحشرات الغريبة و التي منها ما يضيء بألوان مختلفة ، الأحمر ، الأصفر،
الأزرق و الأخضر ، كذلك كنت أستمتع بأنواع النباتات و الاشجار الضخمة و الحيوانات
التي كنا نشاهدها تمر من خلف سور الأشواك و نسمع أصواتها ، وكنت أستغرق في تأملها
بلا ملل كأنني استلهم من النظر إليها الشعر الذي فشلتُ في نظمه ..
02
في إحدى الليالي سمعت صوتًا يقترب في
الخارج ، ثم فُتح مدخل العشة الخاص بي ، حينها رأيت السيد ياسر عرمان ومعه آخرين ،
وقد أخبرني أننا سنذهب إلى مكان ما
!!
خرجت معهم و كنت أعتقد أنهم يقودونني
لمكان إعدامي
!
ذهبنا إلى معسكر ، عرفت أنه مقر الرئاسة
، وهو المكان الذي يتواجد فيه جون قرنق ، ومن هناك ركبنا سيارة و انطلقت بنا ،
بعدها وصلنا إلى منطقة أخرى وكانت منطقة عمليات ، وتناهى إلى سمعي صوت المدفعية و
القذائف ، و علمت أننا على مشارف مدينة نصر التي كانت محاصرة ، و المدفعية لم
تتوقف و أصوات القذائف كذلك ، ثم قاموا باقتحام المنطقة ، و شاهدتهم يخرجون ضابطًا
سودانيًا كبير في السن ، كان برتبة عقيد و كانت ثيابه رثة و في حالة سيئة جدًا ،
كان الوحيد الذي وُجد داخل الموقع ، وجدوه جالسًا على حقيبته ــ فاليدجا ــ و يمسك
بيده مصحفًا و بيلة ــ مصباح يدوي يعمل بالبطارية ــ و يقرأ القرآن ، علمت أن اسمه
" محجوب " و هو آمر المنطقة و يتبع الجيش السوداني في الشمال .
وقامت الاحتفالات .
خمّنت أنهم نقلوني إلى هذه المنطقة
لأكون شاهداً على سقوط مدينة " نصر " في أيدي جماعة قرنق .
ثم عدنا الى السجن من جديد ، ولكن مع
ضيوف جدد فقد كان العقيد " محجوب "، و كذلك نقيب يدعى " روبرت
" و ملازم أول يدعى " طاهر
" . " .
العقيد " محجوب " تم وضعه في
العشة يساري ، أما " روبرت " و " طاهر " فكانا في عشة معًا
إلى يمين عشتي ، كنت أتبادل الحديث معهم من خلال الشقوق بين الأخشاب ، و علمت أنهم
كانوا محاصرين في منطقة العمليات و نفذت ذخيرتهم و طعامهم ، و أمرهم العقيد "
محجوب " برفض الانسحاب ، ولكن البقية لم يستطيعوا الاحتمال وكان يوجد معهم
رائد أشهر سلاحه على العقيد " المحجوب " و أمر البقية بالانسحاب ، و بقى
العقيد " محجوب " وحيدا يقرأ القرآن إلى أن قبض عليه ، أما البقية بعد
هروبهم ، منهم من قتل و لم يبقَ منهم الا " طاهر " و " روبرت
" حيث قبض عليهما الأهالي في المنطقة و سلموهما لقوات جون قرنق بعد أن جردوهم
من كل شيء ، حتى ملابسهم الداخلية ــ اكرمكم الله ــ و سلموهم عراة . .
كنت ممنوعًا من الاختلاط بهم أو بغيرهم
في الواقع ، لكن الوِحدة صعبة جدًا ، فلم نكن نلتزم بالتعليمات ، كنت أتبادل
الحديث معهم
.
" روبرت " شاب مثقف جدًا جدًا وهو خريج كلية سان
هرست في بريطانيا . و كذلك العقيد " محجوب " كان رجلًا متدينًا و يتلو
القرآن كثيرًا ، طلبت منه المصحف ، لكنه رفض
.
و بعد فترة أخبرني أن لديه نسخة مكتوبه
بالخط الكوفي ، فطلبتها منه ، و بعد أن أرسلها لي وجدت مكتوب عليها الفرآن الكريم
! لم أكن على دراية بالخط الكوفي ، و لكن عرفت فيما بعد أن القاف عليه نقطة واحدة
من أعلى والفاء نقطة واحدة من أسفل ، و بدأت ألاحظ الفوارق ، إلى أن أجدت القراءة
بالخط الكوفي
.
في أحد الأيام ناداني العقيد "
محجوب " و قال لي
:
ـــ و الله اني احببتك في الله ، وأريد
ان أعطيك هدية
..
فقلت له
:
ـــ بارك الله فيك .
فقال
:
ـــ هديتي ، آية من كتاب الله ، إذا
قرأتها في يومك لم تمت في ذلك اليوم
!
فضحكت ، لكنني قلت له :
ـــ أخبرني بسرعة ..
فقال لي
:
ـــ كان أحد التابعين يصلي بها يوميًا
فحلم بالرسول صلى الله عليه وسلم ، يقول له : أراك تكره لقائنا !! فقال : لماذا يا
رسول الله قال له : أنت تردد هذه الآية و تلى قوله تعالى
:
{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَّحِيمٌ ، فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ . }
و هذه الآية من يقرأها في يومه لم يمت
ذلك اليوم .
طبعا حفظتها عن ظهر قلب ، و استمريت
أصلي بها صلاة المغرب
.
إلى أن جاءني ما ظننته رسالة من الله
فتركتها ، ولم أعد اصلي بها
.
فقد أتى في أحد الأيام الجنود و حاصروا
عشة " محجوب " و عشة " طاهر " و " روبرت " ، و
قاموا بعصب أعينهم و أيديهم و تم اقتيادهم إلى جهة ما ، كنت أعتقد أنه سيتم
إعدامهم ، استلقيت أفكر في مصيرهم و أتألم لفراقهم . و ما هي إلا لحظات و سمعت من
يسحب الاقسام للبندقية و يحاصرون العشة التي أتواجد بها حاولت أن أتذكر الآية ،
ولكن لم استطيع ، أخرجت المصحف بسرعة لأبحث عن الآية التي تحفظ من الموت ، ولكن
للأسف دخلوا العشة قبل أن أجدها ، تأكدت حينها أنني سأموت ، فقد نسيت الآية ، و لم
أجدها في المصحف ، قاموا بتقييدي و عصبوا عيني وأخرجوني
.
كنت أتشهّد و أقرأ آية الكرسي و احاول
ان أتذكر هدية " المحجوب " ، دون جدوى ، إلى أن وصلنا الي معسكر الرئاسة
و تم فتح الرباط وإذا به إحتفال بذكرى تأسيس الحركة ، و الحمد لله لم يكن هناك سوء
كما توقعت ، و بعد أن جلست بجانب العقيد " محجوب " أخبرته بما حصل و من
ذلك الوقت اعتبرتها بمثابة رسالة من الله . { وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا
إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ }
.
03
بقيت في هذا السجن كما أخبرتكم ، حاولت
أن لا أترك وقت فراغ . رتبت وقتي بين الرياضة و الرسم و النحت و صناعة الأشياء
التي تعلمتها منهم ، و كذلك كنت أستمتع المناظر الساحرة للغابة و بها من طيور و
نباتات و أزهار و حيوانات ، و لكن كانت الأمراض و الجوع و الوِحدة و تقييد الحرية
أقوى .
خلال هذه الفترة ليبيا قُدمت دعوة لحركة
جون قرنق لزيارة ليبيا للتفاوض بشأن إطلاق سراحي مقابل مبلغ مالي ، ولكن أعضاء
الحركة طلبوا من ليبيا تزويدهم بالسلاح ، الأمر الذي أفسد المفاوضات وعقّدها ، ومن
ثم فشلت ، وعاد الوفد المفاوض ، و كذلك كانت هناك فرصة أخرى و هي محادثات سلام بين
حركة جون قرنق و حكومة الصادق المهدي ، كانت المفاوضات تجري في كينيا و برعاية
الرئيس الأميركي السابق كارتر ، الذي لم يكن يشغل المنصب ذلك الوقت ، و لكن المحادثات
كانت برعايته ، و تم الإعلان عن توصل الطرفان إلى اتفاق ، و كان من بنود هذا
الاتفاق تبادل الأسرى ، و كنا نتابع ذلك ، و لكن للأسف قبل موعد توقيع الاتفاق
بأيام ، وقع إنقلاب عمر حسن البشير على السلطة في السودان و اصبح رئيسا له ، و تم
احتجاز رئيس الوزراء المنتخب الصادق المهدي
.
بدأت أفقد الروح المعنوية العالية
نسبياً التي كنت أشعربها ، و بدأ اليأس يدبّ في نفسي ، و كنت أعاني من مرض
البواسير ، بسبب الشطة التي كنت أضيفها إلى الأكل بكثرة ، و بعد أن فحصني الطبيب
" شاو جوك " قام بإعطائي علاج ، لكنني سمعته يخبرهم بأنني أحتاج إلى
عملية ، وكنت قد فرحت كثيرًا وذلك لأنني سأغادر المكان ولو بصورة مؤقته .
في نهاية عام 1990 ، وتحديدا في شهر
نوفمبر ، ابلغوني انه سيتم نقلي إلى مكان آخر ، و بنفس اليوم الذي كنت أنتظر وجبة
بيض الذي قمنا بسرقته
!
نعم سرقناه
.
كان هناك أحد الحرس لديه دجاجة يقوم
بتربيتها ، فأخبرني العقيد " المحجوب " بأن الدجاجة وضعت بيضه داخل عشته
تحت السرير ، وبعد أن علم " روبرت " و " طاهر " بذلك أتفقنا
أن نسرق البيض ، فقلنا له لا تطردها ، اتركها تبيض حتى تصل أربع بيضات ، ثم أمنعها
من الدخول حتى تجبر على البيض في مكان آخر ، و فعلا هذا ما حدث ، رغم تخوف العقيد
" محجوب " من اكتشاف أمره إلا اننا كنا نشجعه
.
و بعد أن تأكدوا أن الدجاجة قد وضعت
بيضها في مكان آخر ، تركنا البيضات الأربعة حتى تأكدنا بأن صاحبها لن يبحث عنها .
أخيرا قررنا طبخها و أكلها ، فأحضرنا
علبة صفيح ووضعنا بها ماء ، ووضعناها جانب النار ، و جلسنا ننتظر بفارغ الصبر أن
تنضج و نتناولها
.
أذكر أن " روبرت " كان فرحًا
و يقول :
ـــ أخيرا سنأكل زلال !
تصوروا مجرد أكل بيض كان من الأماني
المترفة حينها
!
و بنفس الوقت كنا نخاف أن يكتشف أمرنا ،
الشهية الشرهة و الجوع كانا أكبر من كل شيء . و بينما نحن في الانتظار اذا بمجموعة
مسلحة تطوق عشتي و أخبروني أنه سيتم نقلي إلى مكان آخر . و ذهبت معهم دون أن
أتناول البيض
.
و كانت آخر مرة أقابل فيها " محجوب
" و " روبرت " و " طاهر
" .
كانت وجهتنا معسكر الرئاسة الذي لا يبعد
كثيرًا عن مكاننا ، وصلنا هناك و تم وضعي في عشة " قطية " لم تكن منظمة
و جميلة كعشتي السابقة ، و لكني كنت سعيدًا لأنه بعد سنتين تغيرت الوجوه و الأماكن
و هذا في حد ذاته رفع من الروح المعنوية التي قاربت أن تنعدم ، بل وصل بي الأمر
كنت حينما أدعو الله أثناء السجود ، أستمع إلى صوت داخلي يقول :
( كيف سيخرجك الله من هنا ؟
) .
وكنت استغفر الله على الفور . ولكن رحمة
الله واسعة ، و سرعان ما أتت قبل أن يدب اليأس إلى قلبي
.
اخبروني انه سيتم نقلي إلى مستشفى
للعلاج ، وأذكر حادثة حدثت أثناء و جود أحدهم داخل العشة التي وضعوني بها و أثناء
حديثي معه عن نقلي إلى المستشفى ، و كنت أود استدراجه في الكلام حتي أعرف المكان
الذي سأذهب إليه ، و لكنه توقف عن الكلام فجاءة و أدار وجهه للأعلى و أخذ ينصت ، و
أشار لي بالصمت ، وفجأة طعن سقف العشة بالرمح الذي كان بيده ، و عندما سحب الرمح
إذ بصوت يتدحرج من على العشة من الخارج ، و خرج لالتقاطه ، و إذ هو فأر كبير ..
تركني و ذهب إلى حيث كانت نار موقدة و
أزاح بعض الجمر و قام بوضع الفار ، و بعد أن أستوى أخرجه ، و قام بتنظيفه من
الرماد ، و بدأ بأكله بعد أن دعاني لمشاركته وجبته ، ولكني رفضت بشده ، بالرغم من رائحته
الشهية و كذلك شكله المشوي على النار ، ولكن نفسي أبت ، وصار يأكله مثل الساندويتش .
04
في إحدى الليالي احضروا سيارة و انتقلنا
إلى مكان علمت بعدها انها مدينة " قمبيلة " . أقمنا تلك الليلة في غرفة
مبنيه من الطوب و السقف من الزنك ــ الزينقو ــ و في الصباح تم نقلي الي مستشفى
" قمبيلة " و قابلت دكتور " سلمون " وهو مدير المستشفى ، و
بعد ان تحدث معي ابلغني أنني احتاج عملية جراحية ، فاستغليت فرصة أننا بمفردنا و
أخبرته بأنني أسير وإذا أمكن مساعدتي ، فأبدى تعاطفه معي ، لكنه لم يرد عليّ
بالموافقة على المساعدة من عدمها . و علمت انه أخبرهم بضرورة إجراء عملية وان
المستشفى غير مجهز ، و تقرر دخولي الى المستشفى . و قسم الايواء كان عبارة عن عشة
كبيرة جدا ، حوالي 50 متر × 10 متر تقريبًا ، وكانت الارضية خرسانية و السقف من
القش و مزودة بالكهرباء و العديد من الاسرّة التي كانت مليئة بالمرضى الذين
يتألمون ، كان سريري بجانب أحد المرضى الذي يدعى "دميرا " و هو شاب
متزوج وكان أحد العاملين بالمستشفى كممرض ، و كان يعامل معاملة خاصة ، و كانت
أسرته تأتي لزيارته و لاحظت استغرابهم لوجودي . حيث كنت محاط بحرس في الخارج و آخر
بجانبي ، و لا يمكنني الذهاب حتى إلى دورة المياه ــ اكرمكم الله ــ الا مع
الحراسة ، و كان الجميع لديه الفضول ليعرف قصتي ومن أنا ! ولكن كنت ممنوعًا من
التواصل أو التحدث مع الآخرين
.
عند زيارة الطبيب كنت أبالغ في أعراض
المرض حتى يتم نقلي إلى مكان آخر ، أو على الأقل البقاء في المستشفى .
طبعًا الأكل كان أفضل بكثير ، و كذلك
الفراش اسفنج ، كل شيء كان أفضل ، و بعد زيارة من الدكتور " سلمون "
أخبرني أنني أحتاج لإجراء عملية و هناك دكتورة من هولندا ضمن فريق أطباء بلا حدود M.S.F وهي التي ستجري العملية .
في صباح اليوم التالي تم نقلي إلى غرفة
العمليات و هي عبارة عن غرفة داخل سور المستشفى ، تم إعطائي بالطو طبي خاص
بالعمليات قمت بخلع ملابسي و ارتدائه . و تم و ادخالي إلى غرفة العمليات سيرًا على
الأقدام ، وأستلقيت على سرير العمليات ، و كنت أشاهد الطاقم الطبي وهم يجهزون
المعدات و المشارط و غيره و سط دهشة مني و خوف ، كان يجب أن أدخل على نقالة "
باريلا " ، و أن أكون تحت التخدير ، كنت خائفًا من إجراء العملية دون مخدر !!
خاصة عندما طلب مني أحد الممرضين مد يدي اليسرى و قام بربطها و تركيب التغذية بها .
و بعد أن ظهر على وجهي الشعور
بالاستغراب و الخوف معًا ، تدخلت الدكتورة و كان وجهها مطمئنًا ، و قالت لي
بالإنجليزية
:
ـــ لا تخف ، لن تشعر بشيء .
و قام أحدهم بحقن ابرة بالتغذية ، و
أمرتني الدكتورة أن أعد من الواحد إلى العشرة
..
و لا أعتقد أنني وصلت في العد إلى
الأربعة . نمت و أعتقد أن نوعية البنج كانت قديمة جدًا ، حيث أنني لم أشعر
بالعملية و لكني كنت أتألم ألم كبير جدًا ، كنت أشعر و كأنني في صندوق و لا أستطيع
التنفس أحيانًا ، و احيانًا أخرى كأنه يتم تقطيعي أجزاء ، ألم لم أستطيع وصفه ، و
لم ينقذني من الألم إلا نسمة الهواء الذي لفح وجهي أثناء نقلي بواسطة بطانية في
الطريق إلى قسم الإيواء ،
وحين تم وضعي على السرير شعرت بالراحة ،
فتحت عيني و لم أجد أحد بجانبي حتى الحرس شاهدتهم في الخارج ، فاستغليت الفرصة
للحديث مع " دميرا " الذى شعرت بالارتياح تجاهه ، ففكرت أن أبلغه بقصتي
وما إذا كان يرغب في مساعدتي ، و في حال أن أخبرهم وأوشى بما قلته له ، سأتظاهر
بأنني أهذي بسبب المخدر ! و اتخذت القرار و قمت بإبلاغه ، و كان عند حسن ظني و
تعاطف معي بقوة و ابلغني انه سيقف معي وسيساعدني كيفما أشاء ، و هنا طلبت منه قلم
و ورقة ، و كدليل على صدقي ، اخرجت بدلة الطيران من الكيس و أريتها له ، و أخبرته
بأنني سأكتب رسالة ، و اتركها في دورة المياه و عليه أن يضع عليها العنوان الذي سأكتبه
و يرسلها له عن طريق البريد ، و بعد أن سمح لي بالذهاب إلى دورة المياه ، قمت
بكتابة الرسالة الآتية
:
ـــ انا بخير و موجود في الأسر لدى قوات
جون قرنق ، و سأعود في اقرب فرصة أن شاء الله ، سلامي إلى الجميع ..
و في الخلف كتبت العنوان الاتي ، شركة
البريقة لتسويق النفط ، الى غيث القزيري ( الآن يعاني من مرض الم به ، نتمنى منكم
الدعاء له بالشفاء ) ، وكتبت الاسم ثلاثيا
.
اخترت هذا العنوان كان بسبب عدم وجود
تصنيف للشوارع و المباني ومن السهل أن تضيع المراسلات . ولكن شركة البريقة عنوان
واضح ، الأمر الآخر ، أن " غيث القزيري " وهو خالي شقيق أمي و كان عضو
مجلس إدارة الشركة و المفوض العام بها ، وبهذا فإن الرسالة لن تضيع ، و ستصل بكل
تأكيد . تركت الرسالة و القلم بدورة المياه ، و أنا أشعر بخوف كبير لو فيما لو
أكتشف الأمر ، و أنا في طريقي إلى قسم الإيواء شاهدت " دميرا " يدخل الى
دورة المياه
.
و في اليوم التالي أخبرني بأنه تم ارسال
الرسالة ، و تطورت العلاقة بيننا ، و كنت أتبادل معه أطراف الحديث ، عندما يخرج
الحرس الشخصي للاستراحة أو التدخين
.
05
كنت اتبادل مع " دميرا "
الحديث أثناء اي فرصة و كان متعاطف معي جدا هو و أسرته الذين كان لهم كل التقدير و
الاحترام ، وكانت العلاقة طيبة الى درجة انه عرض علي تجهيز سيارة خارج سور
المستشفى لنقلي بعد الهروب و مساعدتي للعودة إلي ليبيا
.
في الجانب الآخر في ليبيا ، اخبرني خالي
انه أثناء و جوده في مكتبه في شركة البريقة ، ادخل إليه البريد الصادر ، و قد لفت
انتباهه مغلف غريب ، و عليه طوابع بريد غير مألوفة ، مزق المغلف و رماه في سلة
المهملات بعد أن اخذ الرسالة ، فأخبرني أنه قرأ الرسالة و عرف أنني اعاني من خلال
الخط المرتعش . فأخذ الظرف من السلة و وضع به الرسالة و قام بإيصالها القيادة .
طيلة مدة أسري كان بالتخطيط مع اخي الذي
يصغرني مباشرة ، يقوم بكتابة رسائل وهمية باسمي و قراءتها للوالدة ، و لكنها كانت
تقول لهم بأنها لا تصدق ذلك ، بل إن قلبها يحدثها بأنني اما أن اكون ميتا أو اسيرا .
انه قلب الام . والدتي ، رغم أنها لم
تدرس في المدرسة على الإطلاق لكنها مرأة عظيمة ، فقد تعلمت القراءة و الكتابة و
حفظت القرءان الكريم كاملا ، و هي الآن تقوم بكتابته بخط يدها . بعد أن زوجت جميع
أبنائها السبع
.
أما أنا فقد كنت أبالغ في وصف حالتي بعد
أن يأتي الطبيب لزيارتي وخاصة وأنني فقدت الكثير من وزني قبل إجراء العملية عندما
صعدت على الميزان لم أصدق نفسي فقد و صل وزني 56 كيلو ! و قد كان قبل الأسر 82
كيلو !
علمت أن الطبيب قرر نقلي الي مستشفى آخر
، لا أدرى هل هو تعاطف معي ام هو قرار طبي ، زارني ملازم استخبارات يدعى "
اقوك " وأخبرني انه سيتم نقلي الي مكان آخر لم يبلغني به ، و ان هناك مفاوضات
مع ليبيا بشأني ، وانهم يودون معالجتي و تسليمي الي ليبيا مقابل مبلغ مالي تدفعه
ليبيا ، و انه علي الانصياع للأوامر اذا اردت العودة إلي ليبيا ، و كانت الأوامر
تقضي ( الادعاء أن اسمي ابراهيم علي ، وجنسيتي سوداني ، انا أحد أعضاء الحركة و
مسجون بسبب أخطاء ارتكبتها ) . فوافقت على ذلك ، ابلغني انه في حال أن خالفت ذلك
ستدخل اطلاقة في رأسي ، حسب تعبيره
.
فعلا ، تم نقلي الي مدينة " جمعة
" وبعد أن وصلنا الى هناك و أقمنا بها عشرون يوما ، وهناك ابلغوني انه سيتم
نقلي الى مكان آخر بسبب عدم وجود أطباء في مستشفى " جمعه " بسبب مغادرة
الطاقم الكوبي الذي كان يعمل هناك ، أخيرا . اتجهنا الي أديس أبابا .
بعد أن أقمنا في فندق صغير بمدينة
" جمعه " ، خرجنا من الفندق و ذهبنا الي السوق ، سوق شعبي ، اشتروا لي
قميص و بنطلون ، مستعملة و لكنها بحالة جيدة ، و كنت اتنقل معهم كأنني فرد منهم و
لكنهم كانوا يحيطون بي و هم مسلحين، راودتني فكرة الهرب ، خاصة أن المدينة بها كثير
من المسلمين . و لكني لم احصل على فرصة و كذلك كنت امل أن تكون باديس أبابا الفرصة
أكبر ، اذا لم يكن خبر تسليمي صحيح
.
بتاريخ 01 أبريل 1991 ، انتقلنا الي
العاصمة أديس أبابا بواسطة السيارة وصلنا صباحا الي مكتب الحركة الشعبية بأديس
أبابا ، التقينا هناك أحدهم يدعى " المرحوم " اعتقد انه هو المسؤول
الأول في المكتب ، بعد التنسيق وإجراء الاتصالات ، تم نقلي الى مستشفى يدعى police force
hospital مستشفى
الشرطة .
تم وضعي بقسم خاص بكبار الضباط بقسم
الجراحة غرفة رقم 18 . كانت عبارة عن غرفة تطل على حديقة جميلة جدا ، وبها سرير و
طاولة و دولاب من نفس الطقم بالون الأزرق الفاتح ، و يوجد دورة مياه داخل الغرفة ،
كان كل شيء نظيف جدا ، جلبوا سرير إضافي للحرس ، نعم كان يرافقني حرس يتناوبون على
حراستي .
______
يتبع قصة
تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان .... الحلقه 4
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق