الثلاثاء، 4 يناير 2022

 قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان .... الحلقه 01

نقلا عن  : Suliman Elshtiti

(01)

 سنة 1988 كنت أحد طياري سرب 1060 بقاعدة خليج البمبة ــ قاعدة الشهيد علي الرايس ــ ، كنت طيار مقاتل عمليات نهاري / ليلي على الطائرة ميغ 23 المقاتلة الروسية .

بعد هبوطي أنا و زميلي الطيار " موسى القذافي " من رحلة استطلاع مسلح بالقرب من حاملة الطائرات الأميركية و التي كانت تحط على مشارف القاعدة خارج المياه الإقليمية ، .
عدت الي غرفتي و قمت بتغيير ملابس الطيران و ذهبت إلى النادي والذي كان ملحق به المطعم ، لتناول وجبة الغذاء ، بعد وصولي إلى النادي وجدت زميلي " موسى " الذي أخبرني بهبوط طائرة خاصة بها مبعوث من القيادة و يريدون عدد اثنين من الطيارين للذهاب للسودان لقتال حركة التمرد بجنوب السودان بقيادة جون قرنق ، و أن أمر الذهاب بالرغبة ، وفي حال عدم إستجابة أحد . سيكون هناك اختيار بالأوامر العسكرية .
وطلب مني ألاّ أوافق خوفًا على حياتي ، و لأن الأمر هناك خطير ، و الحرب مشتعلة هناك ، فطمأنته بأنني لن اذهب للقتال .
جلست الى الطاولة وأحضُر طعام الغذاء الخاص بي ، و قبل أن أتناول اللقمة الأولى رنّ جرس الهاتف ، و بعد أن ردّ على الهاتف أحد العاملين بالمطعم نادوني :
ـــ افندي " سليمان " المكالمة لك ..
قمت للرد على الهاتف ، و كان على الخط آمر السرب المكلف رحمة الله عليه " محمد راغب " ، و قال لي :
ـــ افندي " سليمان " القيادة أرسلت مبعوثًا برسالة فحواها الرغبة بعدد اثنين من الطيارين للذهاب للسودان ، و أنا رشحت نفسي ، و أريدك أن تذهب معي .. ما رأيك ؟
فلم أجد بدٌ من الموافقة رغم عدم رغبتي ، أحسست أنني في وضع لا خيار لي فيه الا الموافقة ، فقلت له :
ـــ موافق .
نعم وافقت دون تفكير ..
فقال لي :
ـــ هيا ..
ـــ شنو هيا ؟
فقال :
ـــ سنذهب الآن .
ـــ ولكن جواز سفري ليس معي ، و أريد رؤية والدتي ..
كانت والدتي بمثابة الأم و الأب معًا ، حيث أن والدي توفى وأنا صغير السن .
فابلغني بأن طلبي مُجاب ، وسيتم نقلنا جوا بطائرة خاصة إلى مدينة بنغازي مقر إقامتي الأصلي . وفعلا خرجت دون أن أتناول الغذاء و حزمت ملابس الطيران و الخوذة و بدلة الضغط و طوق النجاة و جميع التجهيزات و ودعت أصدقائي و صعدنا طائرة الفالكون الخاصة و التي تتكون من غرفة جلوس لشخصين و غرفة نوم ، كانت طائرة مريحة وتختلف كثيرًا عن جميع الطائرات ، لحظات و حطت بنا الطائرة في مطار بنينا ، فتح الباب وجدنا في استقبلنا أحدهم وكان مكلفا من القيادة ، أعطانا مفاتيح سيارة هوندا و قال اذهبوا لإحضار جوازات السفر و رؤية أهلكم .
استلم زميلي الرائد " محمد راغب " و ركبت بجانبه و انطلقنا بالسيارة ، فأوصلني الى منزلي أولا وذهب لبيته ، في بيتي أخذت جواز السفر الخاص بي ، و حتى لا اشغل الوالدة اضطررت للكذب عليها ، فقد قلت لها اننا ذاهبون الى السودان لتدريب طيارين هناك .
بعد توديع الاسرة و اخذ احتياجاتي أتى زميلي " محمد " و ذهبنا الى المطار و كانت الطائرة في انتظارنا ، ركبنا و انطلقت بنا إلى مطار الخرطوم ، و كانت الأجواء في الطائرة رائعة جدًا حيث أنها كانت تخص أحد المسؤولين الكبار ، كان بها جهاز تلفاز و جميع ما لذا وطاب من الأكل والذي لم يكن متوفرًا في ليبيا تلك الفترة مثل المكسرات و الفواكه ... الخ . و حطت بنا الطائرة دون أن نشعر بالمسافة ، و هناك كان في انتظارنا شخصيات كبيرة من الخارجية و الاستخبارات السودانية ، وتم تسليمنا سيارة نوع مرسيدس مع سائق خاص ، و نقلنا إلى فندق الهلتون ، وجدنا هناك أيضا من استقبلنا و جهز لنا الإقامة مع توصيات خاصة لمدير الفندق ، كان الفندق جميل جدًا ، و استمتعنا بالإقامة و كان السائق يقوم بإيصالنا إلى حيث ما نريد .
ذهبنا الى قاعدة السيدي الجوية والتي لا تبعد كثير عن المطار ، بل تشارك المطار المدني نفس المهبط ، جلسنا مع طياري الميغ 23 هناك ، وكانوا من الذين سبق وأن تحصلوا على دورات تدريبيه بقاعدة بنينا ، ولكن اتضح لنا أن منهم من اسقطت طائرته و توفى والباقي منهم لم يكن لديهم رغبة في القتال و كل تحجج بحجة . كان علينا الذهاب لفحص الطائرات التي كانت قد منحتها ليبيا هدية الى السودان ، وكانت في احسن حال ، حيث انها عادت مؤخرا من الصيانة " العمرة " بالاتحاد السوفيتي ، ــ والعمرة مصطلح يعني صيانة معينه لكل عدد ساعات طيران ــ .
ونفذنا عدد من الطلعات القتالية على عدة مناطق ، وبعد كل طلعة نعود للفندق . حينها كان الملحق العسكري في السودان العقيد " جبريل الوداوي " ، الذي كان هو أيضا في استقبالنا في مطار الخرطوم..


(02)

بتاريخ 10 ديسمبر 1988 ، تم إبلاغنا أن هناك مدينة تسمى مدينة نصر محاصرة ، وهي بالقرب من مدينة جوبا أقصى الجنوب ، و مدينة جوبا تعتبر عاصمة الجنوب ، وفي حال استيلاء جون قرنق على مدينة نصر ستسقط مدينة جوبا ، و بالتالي علينا تكثيف الجهود بتركيز الضربات على القوات التي تحاصر مدينة نصر .

وحيث أن مدينة نصر تبعد تقريبا أكثر من 1000 كيلومتر ، فإنه من الأفضل الذهاب و التمركز في مدينة جوبا لقرب المسافة . و تم الاتفاق على هذا ، و قررنا الذهاب الى مدينة جوبا في اليوم التالي 11 ديسمبر 1988 الذي كان يوافق يوم الأحد ..
بعد الانتهاء من الاجتماع ، جلسنا أنا و زميلي الرائد طيار " محمد راغب " بمكتب رائد ملاح سوداني لا أتذكر اسمه الآن ، وكان متخصص في الملاحة الجوية ، و قمنا بتجهيز الخطة Flight plan ليوم الغد ، وهو الموعد المتفق عليه ، ومن ثم اشرفنا على تجهيز الطائرات حيث كان لكل منا طائرته منفردًا ــ طيران تشكيل ــ . وبعدها عدنا الى الفندق لتناول طعام الغذاء ، وفي المساء كنّا بضيافة رجل الأعمال السعودي " حيدر وهبي " حيث انني تعرفت عليه هناك أثناء ممارسة لعبتي المفضلة البلياردو ، وكان يفاوض على شراء مطعم النيل الأزرق الذي يقع على ضفاف النيل ، و بعد وجبة دسمة و سهرة ممتعة ، كانت في انتظارنا رحلة الغد .
يوم الأحد نهضنا باكرًا ، أخذنا تجهيزات الطيران بعد تناول وجبة الإفطار ركبنا السيارة باتجاه قاعدة السيدي ، وبعد طلب تقرير الإرصاد الجوي لمعرفة حالة الطقس ، اتضح أن الطقس سيئ وأنه لا يمكن الطيران لوجود سحاب و ضباب كثيف ، و انتظرنا ، وكان طيلة فترة الانتظار اتصالات من القيادة السودانية بتسريع وصولنا إلى هناك بسبب زيادة الضغط على مدينة نصر و كذلك على مدينة جوبا التي بدأ يشتد عليها الحصار ، ولكننا رفضنا الإقلاع بسبب سوء الأحوال الجوية و شبه إنعدام للأجهزة الملاحية المتعارف عليها لطيران الملاحة الجوية مثل الــ V.O.R و الــ I.L.S و الــ R.S.P.N و الرادارات الارضية . كان الطيران بالطرق البدائية بعدادات الاتجاه و الوقت و السرعة و جهاز N.D.B .
انتظرنا ما يقارب الساعة و النصف ، و بعدها جيء إلينا برصدة جوية تشير إلى تحسّن الجو ، رغم أن تغير الجو بهذه السرعة أمر غريب !! إلا اننا لم نشك في ذلك و قررنا الإقلاع ، و كانت جميع الأمور تسير بشكل ممتاز ، اقلعنا بتشكيل جميل جدًا و زاوية اقلاع كبيرة بشكل جعل كل من هم في الأسفل يقفون لتحيتنا و الاستمتاع بالمنظر الرائع .
اتخذنا اتجاه الرحلة و تسارعنا الى 800 كيلومتر / في الساعة . و ارتفاع 27 ألف قدم ، كان الجو رائعًا و الطائرات في حالة ممتازة ، وكانت من اجمل الرحلات في حياتي ، قطعنا نصف المسافة وهي 600 كيلو متر وصلنا مدينة " ملاكال " بدأت تظهر سحب متقطعة ، و هذا يمثل تحدي لأننا كما قلت نطير دون وجود اجهزة ملاحية ، و كنا معتمدين على العلامات الأرضية Ground Orention وتوجس الرائد " محمد " خيفة ، حيث أنه كان هو قائد التشكيل و هو المسؤول عن اتخاذ القرارات ، فابلغني عن طريق الراديو بمخاوفه ، وأنه اذا ازداد السحاب و حجب الرؤية فإننا سنواجه مشكلة ، و سألني إذ كنت أفضل العودة ؟ فأخبرته بأن المسافة المتبقية 600 كيلومتر ، وأنه وفقا للرصدة الجوية فإن مدينة جوبا اجوائها جيدة .
وهكذا قررنا الاستمرار .
ولكن ازداد الأمر سوءًا ، وأصبحنا نحلق فوق فرشة بيضاء من السحاب ، على ارتفاع 11 ألف قدم تقريبًا . كان من المفترض أن يؤشر مؤشر جهاز الــ N.D.B . عند اقتربنا من المطار ، ولكنه لم يفعل ، و كنا نسمع أغاني و موسيقى إفريقية في الراديو ، ــ علمت بعد أسري أنه تشويش من قوات جون قرنق ــ .
أستمر طيراننا ، و قبل وصولنا بخمس دقائق قررنا النزول إلى ارتفاع تحت السحاب حتى نتمكن من رؤية المطار و العلامات الأرضية ، و فعلا اتخذنا الإجراءات المتمثلة في توحيد و تثبيت السرعة ، تثبيت سرعة النزول العمودية ، وأن اتخذ أنا فارق خمس درجات يمينا بما أنني قائد الطائرة الثانية حتى لا اصطدم بالطائرة الأولى فترة اختراق السحاب ، و الحمد لله لم تكن الطبقة كثيفة و اخترقنا السحاب بنجاح و التحمتُ في تشكيل قريب مع قائد التشكيل ، ولكن للأسف لم نرَ شيئًا فالضباب كان كثيفًا جدًا .
حاولنا الاتصال ببرج المراقبة ، و أستطعنا التواصل معه ، و أخبرونا انهم يستمعون لصوت الطائرات و لكنهم لا يستطيعون رؤيتنا بسبب الضباب الكثيف ، قررنا أن ننزل إلى ارتفاع أقل حتى تتضح الرؤيا ، وفجأة سحب قائد التشكيل طائرته للأعلى و تبعته أنا كذلك دون أن أعرف السبب ، وقبل أن أسأله عن السبب سمعته يبلغ البرج بأننا نواجه رماية أرضية ، وعندما وجهت نظري يمينا إذ بي أشاهد صاروخ ينفجر ، و لكن بحمد لله مداه أقل من ارتفاعنا .

 (03)

 طيلة الفترة السابقة لم أشعر بأي خوف ، ولكن من هذه اللحظة بدأت أشعر بالخطر ، بل و قرب الموت ، و من تلك اللحظة بدأت أقرأ آية الكرسي . وكررت قراءتها دون انقطاع . لقد كنّا نواجه مشكلة مركّبة ، المطار غير مُشاهد بسبب الضباب ، و إذا حاولنا النزول أكثر نكون في مجال رماية الصواريخ الأرضية ، والوقود لا يكفي للعودة ، وكان أقرب مطار يبعد 600 كيلومتر . وهو مطار مدينة " ملاكال " ، وقوات جون قرنق تحيط بالمكان !

لا يوجد وقت للتفكير ، فقط كان الوقت لاتخاذ القرار ، و فعلا اتخذنا القرار وهو العودة لأقصى مسافة باتجاه الشمال حتى نبتعد عن القوات المعادية و نقفز بالمظلات هناك ، كان قرارًا صعبًا ، ولكن لا يوجد أفضل منه .
قمنا بالإجراءات اللازمة لهذا الظرف وهي الطيران بسرعة اقتصادية ، وتقديم أجنحة الطائرة إلى أقصي وضعيه للأمام . اتفقنا عند نفاذ الوقود أن أقفز أنا أولا ، و من ثم يقفز بعدي زميلي حتى يساعد أحدنا الآخر .
و استمرينا في الطيران ، وخلال هذه الفترة كان يمرّ بذاكرتي جميع من تعرّفت عليهم ، وكذلك جميع الأفعال المشينة التي فعلتها ، و خطر ببالي كل من كنت مدينًا له ولو بدرهم واحد ، أمورًا أعتقدت أنني نسيتها ظهرت أمامي في شريط متسلسل ومتتالي ، ظننت للوهلة الأولى أنها مراجعة تحدث قبل لحظات الموت !
كانت الطائرة مزودة بعددٍ من خزانات الوقود ، و يوجد مؤشر ومصباح يضيء عند نفاد كل خزان ، وكانت المصابيح تضيء تباعًا بشكل مقلق جدًا ، والذي زاد الأمر سوءًا وجود لامبة اسمها اللمبة الرئيسية وهي في مكان مقابل الطيار مباشرة و على ارتفاع نظر العين و كانت تضيء مع جميع لمبات الطواري . و من شدة الانزعاج منها قمت بكسر الغطاء عنها و ازالة اللمبة حتى أخفف من التوتر الذي يكتنفني ، و كنت أتابع انتهاء الوقود في آخر خزان .
و لا أدري هل من سوء حظي أو العكس ، فقد كنت رقم 2 في التشكيل ، و الطائرة رقم 2 هي من تفقد أكثر نسبة من الوقود بسبب الحركة للأمام و الخلف للحفاظ على التشكيل ، و أثناء مراقبة مخزون آخر قطرات من الوقود و نحن نحلق فوق طبقة من السحاب ، فإذا بي ــ ومن خلال فتحه في السحاب ــ اشاهد طريق ترابي ، فأردت إبلاغ زميلي " محمد " عن إمكانية الهبوط ، في هذه الأثناء انطفأ محرك طائرتي ، فأبلغت زميلي بأن محرك طائرتي انطفأ و سأحاول الهبوط بالطائرة ، وحيث أنه لازال يملك القليل من الوقود ، قال لي :
ـــ حاول إن أستطعت .
ولم أكن أنتظر جوابه في الواقع .
وأخبرني بأنه سيستمر ولا يرغب في الهبوط ، وراودتني شكوك حينها ، ولكن لا مجال للتفكير فقد اتخذت القرار ولا يوجد لدي الكثير من الخيارات ، إمّا القفز بالكرسي ، أو الهبوط بالطائرة دون محرك ، وحيث أنني فوق منطقة عمليات ، و في حال الهبوط بالمضلة يكون احتمال إصابتها كبير جدًا ، و طريقة الموت في هذه الحالة ستكون أصعب .
نعم .. لقد كنت أفكر في الموت ، ولكن بطريقه أسهل !
الثواني تمرّ ولم تفارق لساني آية الكرسي أبدًا ، إلا حين التحدث مع زميلي . قمت بالتأكد من سرعة الطائرة المسموح بها لإنزال العجلات و سحبت مقبض العجلات للأسفل ، و سمعت صوت العجلات و هي تنزل و أنطفأت ثلاث لمبات حمراء ، و أضاءت بدلها ثلاث لمبات خضراء في إشارة ألى أن العجلات في وضعية نزول مؤمّنة ، وجهت الطائرة من خلال فتحت السحاب و اتخذت زاوية ميلان حادّة و زاوية إنحدار كبيرة جدًا ، و بدأت النزول ، كنت أعلم أن الطائرة ميغ 23 غير مصرح لها الهبوط بها بدون محرك يعمل ، و ذلك لثقل وزنها الذي يبلغ 18800 كيلو جرام . ولذلك حاولت الهبوط بسرعة كبيرة جدًا ثلاث أضعاف سرعة الهبوط الاعتيادية و قد كانت سرعة الطائرة على ارتفاع خمسون متر 600 كيلومتر في الساعة ، لم أكن أسمع شيئًا ولا أرى شيئًا سوى مكان الهبوط ، و كان يحاذيني من اليسار نهر النيل ، و يميني غابة كثيفة ، و شاهدت ناس تجري باتجاه الطائرة و لم أكن أعلم أهم من جيش السودان ؟ أم من حركة جون قرنق ؟ لا وقت للتفكير حاولت المناورة و الهبوط بالطائرة .
و الحمد لله هبطت الطائرة أخيرًا ، ولكن السرعة كانت كبيرة جدًا ، لا أدري كم كانت بالضبط ، ولكن عندما قمت بالضغط على زر مضلة فرملة الطائرة Drag shut انفصلت مباشرة ، حيث أنها كانت مبرمجة على الانفصال عندما تكون السرعة تزيد عن 330 كيلومتر في الساعة . و لكم أن تتخيلوا هذه السرعة على طريق ترابي !!
لم يكن بمقدوري إيقاف الطائرة بسبب السرعة الكبيرة رغم استخدام الفرملة اليدوية ، ولكن إذا بحفرة وقعت بها العجلة اليسرى أدّت إلى حدوث انكسار بالعجلة و انحرفت الطائرة يسارًا نحو النهر و لم تقف إلا بعد دخولها حوالي عشرة أمتار داخل مياه النهر .
عندها توقفت الطائرة بسبب الماء ، وبدأت أستمع إلى صوت الرائد " محمد " وهو يناديني :
ـــ " سليمان " أين أنت ؟
وظني إنه كان يناديني منذ فترة ، لكنني لم أكن أسمعه ، فقلت له :
ـــ أنا هبطت بسلام .
قلت بسلام ، وأنا غير مصدق ذلك ، تفقدت نفسي ألا توجد إصابات ، ولم أجد شيء ظاهر بحمد الله ، إلا جرح صغير جدًا أثناء محاولة الضغط على زر مضلة الفرملة و الذي كان محمي بغطاء حتى لا تخرج عند الضغط عليه بالخطأ . وأخبرته :
ـــ أنني بخير ، و ماذا عنك ؟
فقد كان يطير طيرانًا شراعيًا ، أي أن محرك طائرته توقف كذلك .
وهذه كانت آخر مكالمة معه ــ رحمة الله عليه ــ حيث عرفت فيما بعد أنه مرّ على آخر نقطة للعدو ، و هناك أصيبت طائرته بصاروخ أرض جو ، و قفز بالكرسي و بعد هبوطه بالمضلة حاول الاختباء في الغابة ، و وجدته فرق البحث التابعة لقوات جون قرنق ، وجدته للأسف و قد هاجمته كلاب بريّة و كان في الرمق الأخير ، و نقل إلى مستشفى هناك ، و توفى اليوم التالي إثر اصاباته البليغة ، اللهم أغفر له وأرحمه .
شاهدت أجزاء من الطائرة أتو بها ، و لم يسمح لي بالذهاب إليه حين كان يحتضر ، أو معرفة أين دُفن يومها ، وظني أن سبب المنع عدم وجود طريق آمن ، حيث كانت معظم الطرق في تلك السنة غارقة بمياه الفيضان .


( 04 )

بعد أن استقرت الطائرة في الماء ، لم يعد هناك وقت للتفكير ، كانت الأمور تتسارع ، و التأخير قد يؤدي إلى الهلاك .
على عجل قمت بإطفاء المفاتيح ، وفك الأحزمة التي تحيط بي من كل جانب ، و قمت بفتح غطاء الكابين و الذي يفتح عن طريق ضغط الهواء ، و الحمد لله فتح الغطاء و شعرت بأن الطائرة تغرق ، قفزت من الطائرة مع التمسك بجانب الطائرة ، ولم تكن المياه عميقة ، حيث كان منسوبها يصل إلى مستوى صدري ، خرجت مسرعًا باتجاه اليابسة ، لم يكن هناك أصوات إلا صوت المحرك الكهربائي الذي لم أطفئ مفتاحه من ضمن المفاتيح . وصلت إلى اليابسة أخذت غرفة ماء بيدي من النهر حيث كنت أشعر بعطش شديد .
كانت اللحظات تمرّ دون أن أتوقف عن قراءة آية الكرسي . وقفت لاتخاذ القرار وكيف أتصرف ؟
نظرت إلى الغابة و تخيلت الحيوانات المفترسة و المصير الذي ينتظرني في هذا الخيار . و نظرت يمينًا و شمالًا، رأيت أشخاص يهرولون باتجاهي من مسافة بعيدة ، فاخترتُ أن أموت على يد البشر ، وأحسست أن هذا أقل عنفًا .
قمت بردم الخريطة على حافة النهر ، و قمت بمسح جهاز flight computer و أتخذت قراري بأنني سأنتظر ولن أهرب إلى الغابة .
و فعلا وصل السكان المحليون ، ولم يكن بينهم عسكري . لقد كان منظر لا ينسى بالنسبة لي ، كان منظرًا مذهلًا لنساء و رجال منهم عُراة ، و منهم شبه عُراة يحملون سهام و يضعون على رؤوسهم ريش ، ووجوههم بها سمات ــ علامات كالخدوش ــ على الجباه ، يوجد بأذرعهم أساور من ناب الفيل ، و من النحاس ، و منهم من يضع قرون فوق رأسه !
وقفوا أمامي في شكل نصف دائرة و خلفي النهر ، و بدأوا يتحدثون معي بلغة لا أعرفها ، ولكنني فهمت انهم يريدون مني أن أرفع يدي إلى الأعلى فقمت برفع يدي ، و بدأوا الغناء و تحريك الأسهم في حركات شبه هجومية و أنا متسمّر في مكاني و يداي إلى الأعلى و أنتظر مصيري ، كنت أقراء آية الكرسي في سري ، و كنت أتخيل كيفية الموت في هذه الحرب .كم هو مؤلم ألا تعرف كيف ستموت !
كنت أفكر أنه في حال رأيت أحدا لديه مسدس أو بندقية فسأقوم بمهاجمته حتى يتم قتلي سريعًا بسلاح غير الحراب .
الوقت يمرّ وهم يغنون وأنا مُرهق من الأحداث التي مرّت بي و كذلك من الإستمرار في رفع يدي إلى الأعلى .
و في كل مرة أحاول خفض يداي يقومون بزمجرة معينة و ينظرون إليّ بغضب ، فاضطر لرفها ولكني لم أستطع الصمود لوقت طويل ، فقررت إنزالهما ولم ألقي بالًا لتهديدهم ، بل قمت بخلع الخوذة و رميتها بعيدًا ، و خلعت بدلة الضغط ، و خلعت طوق النجاة life jacet و قمت بإفراغ محتويات جيوبي من علبة سجائر مالبورو و ولاعة و كتاب صغير لحالات الطوارئ ، و خلعت ساعتي و أشرت لهم بأنه لا يوجد لديّ شيء آخر .
عندما لاحظوا أنني فقدت أعصابي ولم أعد أهتم لتهديدهم ، و أنه أصابني الإعياء و التعب و ليس بحوزتي شيء قد يضرهم استسلموا للواقع .
مرّت لحظات .. و جاءت مجموعة تهرول و ترتدي قيافة عسكرية و معهم أجهزة اتصال ، قاموا بتفريق الأهالي و قاموا بتوجيه البنادق نحوي ، و أفسحوا لي الطريق ، وبالإشارة فهمت انهم يريدون أن أرفع يداي للأعلى و تقدم أحدهم بحذر كبير و قام بتفتيشي ، و من ثم أشاروا لي بالتقدم إلى الأمام و سرنا حتى وصلنا إلى فناء به كوخ " قطية " ــ هكذا يسمونه ــ ، وهو كوخ مصنوع من القش و الطين ، عندما نظرت داخل الفناء لاحظت وجود مكان إيقاد النار و بجانبه جذع شجرة ميتة ، فخطر ببالي فيلم أميركي سبق أن شاهدته لطيار أميركي تسقط به الطائرة في أدغال افريقيا ، وقاموا بربطه على جذع شجرة وأوقدوا نارًا .
تخيلت ذلك و توقعت نفس المصير .
تم توجيهي إلى ذلك الكوخ ، و عندما دخلت كانت الرائحة كريهة جدًا ، و كان هناك سرير بالي مرقع بجميع أنواع و ألوان الحبال ، و لا يوجد عليه أي نوع من المفروشات ، وأشاروا لي بالجلوس ، فجلست بدأت أتألم من قرص البق ، و البرغوث الذي كان مختبئ في السرير ، ولكن كانت ألم الأسر و المصير المنتظر أكبر من ألم البق و الحشرات ، كنت أشعر أن شعر رأسي اصبح ابيض ــ شيب ــ و أشعر بوجود طبقه من حجر الصوان فوق دماغي تمنعني من التفكير ، لم أعد استطيع التفكير ، ذهن مشوش بطريقه جعلتني قد أرتكب أخطاء أو أفعال كبيرة ، إلى درجة انه خطرت ببالي خطة غبية جدًا ، وهي أنه وأثناء وجودي في مدينة فرونزا / بشكيك بقرقيزيا في الاتحاد السوفيتي أثناء التدريب على قيادة طائرة الميغ ، كان معنا هناك طيار أثيوبي يدعى " توماس " ، وكان بيني و بينه شبه كبير إلى درجة أن أصدقائي كانوا يقولون لي أنه أخوك ــ من باب التسلية ــ . أردت إبلاغهم بأنني أثيوبي وأن اسمي " توماس " و دخلت السودان بالخطأ .
لهذا الحد توقف التفكير لدي !


(05)

دخل ثلاث رجال يرتدون زيّا عسكريّا ، بدأ أحدهم بسؤالي باللغة الإنجليزية :
ـــ هل تتحدث الإنجليزية ؟
فأشرت له بالنفي ، رغبة مني في كسب الوقت كي أستطيع التفكير ، ولكنه قطع عليّ ذلك الرجل الآخر الذي بدأ يقرأ شعار السرب الذي كان يزين صدري الموضوع على بدلة الطيران ، و تلى الآتي وهو يشير الى الشعار :
ـــ الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية ، قاعدة بنينا الجوية ، سرب 1060 . أكيد تتحدث العربية ؟
قالها بلغة استهزاء . الحمد لله انني لم أبُح بما كان يجول في بالي من كذبه أنني اثيوبي .
وبعد أن استعدت أنفاسي قلت له :
ـــ نعم ، أنا أتكلم العربية .
فقال لي :
ـــ هل تعرف جون قرنق ؟
هنا تبدد أي أمل بأن أكون لدى الجيش السوداني ، و تأكدت أنني أسير لدى العدو الذي أتيت لقتاله .
وأستمر استجوابي ، وحيث أنهم عرفوا أنني من ليبيا و تحديدا اتبع سرب 1060 . فتذكرت ما قلته لوالدتي بأننا ذاهبون للسودان لتدريب طيارين . فأخبرتهم :
ـــ أننا من ليبيا و أتينا لتدريب طيارين ، و نتيجة لتعطل الأجهزة الملاحية فقدنا اتجاه المطار .
قاموا بتسجيل اسمي و اسم زميلي ، و نوع الطائرة و قاموا بإرسال هذه المعلومات الى قيادتهم و التي بدورها نقلتها بشكل ما إلى إذاعة BBC . أما إذاعة السودان / أم درمان فقد أعلنت بأن خبيرين ليبيين اختفت طائرتيهما جنوب السودان !
ابلغوني بأننا سنذهب الى معسكر قريب . تحركنا داخل الغابة في طريق هو اشبه بممر بين الاشجار ، و كان الوقت بعد المغرب و السماء بدأت تظلم المكان مخيف و الجو مشحون برائحة الموت و إعداد كبيرة جدًا من البعوض بشكل لا يمكن وصفه و لا يمكن التعايش معه الى درجة أنني حين كنت امسح على وجهي تتلطخ يدي بالدماء ، وأثناء مسيرنا في الغابة كانت هناك حشرات تضيء وعندما شاهدتها لأول مرة كنت اعتقد انهم مجموعات تدخن سجائر ! كنا نمر على عشش " قطيات " من حين لآخر ، و أخذ مني الأعياء و التعب مأخذًا ، و كذلك حلقي جف من العطش و الجوع ، طلبت منهم بعض الماء توقفوا أمام احدى العشش و أتوا لي بقِدر كبير جدًا به قليل من الماء شربت منه ، وصلنا المشي ما يقارب الخمس أو ست ساعات ، وبعد أن وصلنا الي المكان أمروني بالجلوس على عرف شجرة ساقط على الأرض وهنا بدأ البعوض بمهاجمتي بطريقة لا تحتمل ، و الحمد لله ان الأمر لم يطل كثيرا ، فما هي إلا لحظات و سمعت صوت مولد كهرباء يتم تدويره و يفشل و اشتغل بعد عدة محاولات ، إضاءة مجموعة من اللمبات .
تم نقلي الى عشة بها رائد و نقيب يجلسان على كراسي مصنوعة يدويًا من أغصان الشجر و امامهما طاولة هي أيضا مصنوعة من أغصان الشجر ، وفي المقابل كرسي آخر دعوني للجلوس عليه ، تم التحقيق و سؤالي عن كل شيء اسمي كاملًا . المدارس التي درست بها ، والدتي ، أخوتي . اعمامي ، أخوالي ، وخالاتي ، عماتي ، مقاسات ملابسي ، و حتى رقم الحذاء ومقاس القبعة ، كل شيء .. كل شيء . اجبتهم على جميع الأسئلة و لم أجب عن الأسئلة المتعلقة بأسرار عسكرية ، و تمسكت بأنني طيار مدرّب و نتيجة العطل في الأجهزة اتجهنا جنوبا و نفذ الوقود . رغم أنهم لم يقتنعوا وهم متأكدون بأننا مقاتلون ، إلا انهم لم يجبروني على أي شيء و لم اعامل بشكل غير انساني ، ولم توجه لي أية إهانة ، و علمت أخيرًا ــ فيما بعد ــ أن هناك أوامر من جون قرنق بألاّ يمسني أحد بسوء .
ومع استمرار التحقيق ، لاحظ أحدهم درجة الاعياء الظاهر علي ، فأعطاني سيجارة من التي كانت بحوزتي ، واشعلتها و كانت آخر سيجارة في جنوب السودان ، كان كلما ينتهي التحقيق يبدأ من جديد إعادة الأسئلة ، بعد أن اشتد بي التعب و الجوع و لم أعد استطيع التحكم في رأسي من شدة النعاس . أخذوني للنوم في احدى العشش ، دخلت بها و قاموا باقفال المدخل بالأخشاب رفعت الناموسية ــ مثل المظلة تحيط بالسرير حتى تمنع البعوض ــ و استلقيت على السرير كان الفراش عبارة عن اسفنج بدون غطاء و بدون فوطة ومتسخ بشكل مزري لا يمكن وصفه و كأنهم قد أتوا به من ورشة ميكانيكا ، اسدلت الناموسية ، و كان بداخلها العديد من البعوض و لكني لم أشعر به نتيجة التعب و الإرهاق و التفكير في المصير الذي ينتظرني . نمت و بعد قليل استيقظت على شيء كانه ماس كهربائي ، و سمعت صوت يقترب مني و شعرت بنفس الشعور مرة أخرى ، وكان هذا الشيء عبارة عن خفاش يطير و عندما يقترب من الناموسية يطلق ذبذبات ، لم استطيع النوم الا مع اقتراب الصباح و انا أكاد ابكي من التعب و الإرهاق .



يتبع الحلقه 2

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق