قصة تواجد
القوات الجوية الليبية بالسودان .... الحلقه 01
نقلا
عن : Suliman Elshtiti
(01)
سنة
1988 كنت أحد طياري سرب 1060 بقاعدة خليج البمبة ــ قاعدة الشهيد علي الرايس ــ ،
كنت طيار مقاتل عمليات نهاري / ليلي على الطائرة ميغ 23 المقاتلة الروسية
.
بعد
هبوطي أنا و زميلي الطيار " موسى القذافي " من رحلة استطلاع مسلح بالقرب
من حاملة الطائرات الأميركية و التي كانت تحط على مشارف القاعدة خارج المياه
الإقليمية ، .
عدت
الي غرفتي و قمت بتغيير ملابس الطيران و ذهبت إلى النادي والذي كان ملحق به المطعم
، لتناول وجبة الغذاء ، بعد وصولي إلى النادي وجدت زميلي " موسى " الذي
أخبرني بهبوط طائرة خاصة بها مبعوث من القيادة و يريدون عدد اثنين من الطيارين
للذهاب للسودان لقتال حركة التمرد بجنوب السودان بقيادة جون قرنق ، و أن أمر
الذهاب بالرغبة ، وفي حال عدم إستجابة أحد . سيكون هناك اختيار بالأوامر العسكرية
.
وطلب
مني ألاّ أوافق خوفًا على حياتي ، و لأن الأمر هناك خطير ، و الحرب مشتعلة هناك ،
فطمأنته بأنني لن اذهب للقتال .
جلست
الى الطاولة وأحضُر طعام الغذاء الخاص بي ، و قبل أن أتناول اللقمة الأولى رنّ جرس
الهاتف ، و بعد أن ردّ على الهاتف أحد العاملين بالمطعم نادوني
:
ـــ
افندي " سليمان " المكالمة لك ..
قمت
للرد على الهاتف ، و كان على الخط آمر السرب المكلف رحمة الله عليه " محمد
راغب " ، و قال لي :
ـــ
افندي " سليمان " القيادة أرسلت مبعوثًا برسالة فحواها الرغبة بعدد
اثنين من الطيارين للذهاب للسودان ، و أنا رشحت نفسي ، و أريدك أن تذهب معي .. ما
رأيك ؟
فلم
أجد بدٌ من الموافقة رغم عدم رغبتي ، أحسست أنني في وضع لا خيار لي فيه الا
الموافقة ، فقلت له :
ـــ
موافق
.
نعم
وافقت دون تفكير ..
فقال
لي
:
ـــ
هيا
..
ـــ
شنو هيا ؟
فقال
:
ـــ
سنذهب الآن .
ـــ
ولكن جواز سفري ليس معي ، و أريد رؤية والدتي ..
كانت
والدتي بمثابة الأم و الأب معًا ، حيث أن والدي توفى وأنا صغير السن
.
فابلغني
بأن طلبي مُجاب ، وسيتم نقلنا جوا بطائرة خاصة إلى مدينة بنغازي مقر إقامتي الأصلي
. وفعلا خرجت دون أن أتناول الغذاء و حزمت ملابس الطيران و الخوذة و بدلة الضغط و
طوق النجاة و جميع التجهيزات و ودعت أصدقائي و صعدنا طائرة الفالكون الخاصة و التي
تتكون من غرفة جلوس لشخصين و غرفة نوم ، كانت طائرة مريحة وتختلف كثيرًا عن جميع
الطائرات ، لحظات و حطت بنا الطائرة في مطار بنينا ، فتح الباب وجدنا في استقبلنا
أحدهم وكان مكلفا من القيادة ، أعطانا مفاتيح سيارة هوندا و قال اذهبوا لإحضار
جوازات السفر و رؤية أهلكم .
استلم
زميلي الرائد " محمد راغب " و ركبت بجانبه و انطلقنا بالسيارة ، فأوصلني
الى منزلي أولا وذهب لبيته ، في بيتي أخذت جواز السفر الخاص بي ، و حتى لا اشغل
الوالدة اضطررت للكذب عليها ، فقد قلت لها اننا ذاهبون الى السودان لتدريب طيارين
هناك
.
بعد
توديع الاسرة و اخذ احتياجاتي أتى زميلي " محمد " و ذهبنا الى المطار و
كانت الطائرة في انتظارنا ، ركبنا و انطلقت بنا إلى مطار الخرطوم ، و كانت الأجواء
في الطائرة رائعة جدًا حيث أنها كانت تخص أحد المسؤولين الكبار ، كان بها جهاز
تلفاز و جميع ما لذا وطاب من الأكل والذي لم يكن متوفرًا في ليبيا تلك الفترة مثل
المكسرات و الفواكه ... الخ . و حطت بنا الطائرة دون أن نشعر بالمسافة ، و هناك
كان في انتظارنا شخصيات كبيرة من الخارجية و الاستخبارات السودانية ، وتم تسليمنا
سيارة نوع مرسيدس مع سائق خاص ، و نقلنا إلى فندق الهلتون ، وجدنا هناك أيضا من
استقبلنا و جهز لنا الإقامة مع توصيات خاصة لمدير الفندق ، كان الفندق جميل جدًا ،
و استمتعنا بالإقامة و كان السائق يقوم بإيصالنا إلى حيث ما نريد
.
ذهبنا
الى قاعدة السيدي الجوية والتي لا تبعد كثير عن المطار ، بل تشارك المطار المدني
نفس المهبط ، جلسنا مع طياري الميغ 23 هناك ، وكانوا من الذين سبق وأن تحصلوا على
دورات تدريبيه بقاعدة بنينا ، ولكن اتضح لنا أن منهم من اسقطت طائرته و توفى
والباقي منهم لم يكن لديهم رغبة في القتال و كل تحجج بحجة . كان علينا الذهاب لفحص
الطائرات التي كانت قد منحتها ليبيا هدية الى السودان ، وكانت في احسن حال ، حيث
انها عادت مؤخرا من الصيانة " العمرة " بالاتحاد السوفيتي ، ــ والعمرة
مصطلح يعني صيانة معينه لكل عدد ساعات طيران ــ .
ونفذنا
عدد من الطلعات القتالية على عدة مناطق ، وبعد كل طلعة نعود للفندق . حينها كان
الملحق العسكري في السودان العقيد " جبريل الوداوي " ، الذي كان هو أيضا
في استقبالنا في مطار الخرطوم..
(02)
بتاريخ
10 ديسمبر 1988 ، تم إبلاغنا أن هناك مدينة تسمى مدينة نصر محاصرة ، وهي بالقرب من
مدينة جوبا أقصى الجنوب ، و مدينة جوبا تعتبر عاصمة الجنوب ، وفي حال استيلاء جون
قرنق على مدينة نصر ستسقط مدينة جوبا ، و بالتالي علينا تكثيف الجهود بتركيز
الضربات على القوات التي تحاصر مدينة نصر .
وحيث
أن مدينة نصر تبعد تقريبا أكثر من 1000 كيلومتر ، فإنه من الأفضل الذهاب و التمركز
في مدينة جوبا لقرب المسافة . و تم الاتفاق على هذا ، و قررنا الذهاب الى مدينة
جوبا في اليوم التالي 11 ديسمبر 1988 الذي كان يوافق يوم الأحد ..
بعد
الانتهاء من الاجتماع ، جلسنا أنا و زميلي الرائد طيار " محمد راغب "
بمكتب رائد ملاح سوداني لا أتذكر اسمه الآن ، وكان متخصص في الملاحة الجوية ، و
قمنا بتجهيز الخطة Flight plan ليوم
الغد ، وهو الموعد المتفق عليه ، ومن ثم اشرفنا على تجهيز الطائرات حيث كان لكل
منا طائرته منفردًا ــ طيران تشكيل ــ . وبعدها عدنا الى الفندق لتناول طعام
الغذاء ، وفي المساء كنّا بضيافة رجل الأعمال السعودي " حيدر وهبي " حيث
انني تعرفت عليه هناك أثناء ممارسة لعبتي المفضلة البلياردو ، وكان يفاوض على شراء
مطعم النيل الأزرق الذي يقع على ضفاف النيل ، و بعد وجبة دسمة و سهرة ممتعة ، كانت
في انتظارنا رحلة الغد .
يوم
الأحد نهضنا باكرًا ، أخذنا تجهيزات الطيران بعد تناول وجبة الإفطار ركبنا السيارة
باتجاه قاعدة السيدي ، وبعد طلب تقرير الإرصاد الجوي لمعرفة حالة الطقس ، اتضح أن
الطقس سيئ وأنه لا يمكن الطيران لوجود سحاب و ضباب كثيف ، و انتظرنا ، وكان طيلة
فترة الانتظار اتصالات من القيادة السودانية بتسريع وصولنا إلى هناك بسبب زيادة
الضغط على مدينة نصر و كذلك على مدينة جوبا التي بدأ يشتد عليها الحصار ، ولكننا
رفضنا الإقلاع بسبب سوء الأحوال الجوية و شبه إنعدام للأجهزة الملاحية المتعارف
عليها لطيران الملاحة الجوية مثل الــ V.O.R و الــ I.L.S و الــ R.S.P.N و الرادارات الارضية . كان الطيران
بالطرق البدائية بعدادات الاتجاه و الوقت و السرعة و جهاز N.D.B .
انتظرنا
ما يقارب الساعة و النصف ، و بعدها جيء إلينا برصدة جوية تشير إلى تحسّن الجو ،
رغم أن تغير الجو بهذه السرعة أمر غريب !! إلا اننا لم نشك في ذلك و قررنا الإقلاع
، و كانت جميع الأمور تسير بشكل ممتاز ، اقلعنا بتشكيل جميل جدًا و زاوية اقلاع
كبيرة بشكل جعل كل من هم في الأسفل يقفون لتحيتنا و الاستمتاع بالمنظر الرائع .
اتخذنا
اتجاه الرحلة و تسارعنا الى 800 كيلومتر / في الساعة . و ارتفاع 27 ألف قدم ، كان
الجو رائعًا و الطائرات في حالة ممتازة ، وكانت من اجمل الرحلات في حياتي ، قطعنا
نصف المسافة وهي 600 كيلو متر وصلنا مدينة " ملاكال " بدأت تظهر سحب
متقطعة ، و هذا يمثل تحدي لأننا كما قلت نطير دون وجود اجهزة ملاحية ، و كنا
معتمدين على العلامات الأرضية Ground Orention وتوجس
الرائد " محمد " خيفة ، حيث أنه كان هو قائد التشكيل و هو المسؤول عن
اتخاذ القرارات ، فابلغني عن طريق الراديو بمخاوفه ، وأنه اذا ازداد السحاب و حجب
الرؤية فإننا سنواجه مشكلة ، و سألني إذ كنت أفضل العودة ؟ فأخبرته بأن المسافة
المتبقية 600 كيلومتر ، وأنه وفقا للرصدة الجوية فإن مدينة جوبا اجوائها جيدة .
وهكذا
قررنا الاستمرار .
ولكن
ازداد الأمر سوءًا ، وأصبحنا نحلق فوق فرشة بيضاء من السحاب ، على ارتفاع 11 ألف
قدم تقريبًا . كان من المفترض أن يؤشر مؤشر جهاز الــ N.D.B . عند اقتربنا من المطار ، ولكنه لم
يفعل ، و كنا نسمع أغاني و موسيقى إفريقية في الراديو ، ــ علمت بعد أسري أنه
تشويش من قوات جون قرنق ــ .
أستمر
طيراننا ، و قبل وصولنا بخمس دقائق قررنا النزول إلى ارتفاع تحت السحاب حتى نتمكن
من رؤية المطار و العلامات الأرضية ، و فعلا اتخذنا الإجراءات المتمثلة في توحيد و
تثبيت السرعة ، تثبيت سرعة النزول العمودية ، وأن اتخذ أنا فارق خمس درجات يمينا
بما أنني قائد الطائرة الثانية حتى لا اصطدم بالطائرة الأولى فترة اختراق السحاب ،
و الحمد لله لم تكن الطبقة كثيفة و اخترقنا السحاب بنجاح و التحمتُ في تشكيل قريب
مع قائد التشكيل ، ولكن للأسف لم نرَ شيئًا فالضباب كان كثيفًا جدًا .
حاولنا
الاتصال ببرج المراقبة ، و أستطعنا التواصل معه ، و أخبرونا انهم يستمعون لصوت
الطائرات و لكنهم لا يستطيعون رؤيتنا بسبب الضباب الكثيف ، قررنا أن ننزل إلى
ارتفاع أقل حتى تتضح الرؤيا ، وفجأة سحب قائد التشكيل طائرته للأعلى و تبعته أنا
كذلك دون أن أعرف السبب ، وقبل أن أسأله عن السبب سمعته يبلغ البرج بأننا نواجه
رماية أرضية ، وعندما وجهت نظري يمينا إذ بي أشاهد صاروخ ينفجر ، و لكن بحمد لله
مداه أقل من ارتفاعنا .
(03)
طيلة
الفترة السابقة لم أشعر بأي خوف ، ولكن من هذه اللحظة بدأت أشعر بالخطر ، بل و قرب
الموت ، و من تلك اللحظة بدأت أقرأ آية الكرسي . وكررت قراءتها دون انقطاع . لقد
كنّا نواجه مشكلة مركّبة ، المطار غير مُشاهد بسبب الضباب ، و إذا حاولنا النزول
أكثر نكون في مجال رماية الصواريخ الأرضية ، والوقود لا يكفي للعودة ، وكان أقرب
مطار يبعد 600 كيلومتر . وهو مطار مدينة " ملاكال " ، وقوات جون قرنق
تحيط بالمكان !
لا
يوجد وقت للتفكير ، فقط كان الوقت لاتخاذ القرار ، و فعلا اتخذنا القرار وهو
العودة لأقصى مسافة باتجاه الشمال حتى نبتعد عن القوات المعادية و نقفز بالمظلات
هناك ، كان قرارًا صعبًا ، ولكن لا يوجد أفضل منه .
قمنا
بالإجراءات اللازمة لهذا الظرف وهي الطيران بسرعة اقتصادية ، وتقديم أجنحة الطائرة
إلى أقصي وضعيه للأمام . اتفقنا عند نفاذ الوقود أن أقفز أنا أولا ، و من ثم يقفز
بعدي زميلي حتى يساعد أحدنا الآخر .
و
استمرينا في الطيران ، وخلال هذه الفترة كان يمرّ بذاكرتي جميع من تعرّفت عليهم ،
وكذلك جميع الأفعال المشينة التي فعلتها ، و خطر ببالي كل من كنت مدينًا له ولو
بدرهم واحد ، أمورًا أعتقدت أنني نسيتها ظهرت أمامي في شريط متسلسل ومتتالي ، ظننت
للوهلة الأولى أنها مراجعة تحدث قبل لحظات الموت !
كانت
الطائرة مزودة بعددٍ من خزانات الوقود ، و يوجد مؤشر ومصباح يضيء عند نفاد كل خزان
، وكانت المصابيح تضيء تباعًا بشكل مقلق جدًا ، والذي زاد الأمر سوءًا وجود لامبة
اسمها اللمبة الرئيسية وهي في مكان مقابل الطيار مباشرة و على ارتفاع نظر العين و
كانت تضيء مع جميع لمبات الطواري . و من شدة الانزعاج منها قمت بكسر الغطاء عنها و
ازالة اللمبة حتى أخفف من التوتر الذي يكتنفني ، و كنت أتابع انتهاء الوقود في آخر
خزان .
و
لا أدري هل من سوء حظي أو العكس ، فقد كنت رقم 2 في التشكيل ، و الطائرة رقم 2 هي
من تفقد أكثر نسبة من الوقود بسبب الحركة للأمام و الخلف للحفاظ على التشكيل ، و
أثناء مراقبة مخزون آخر قطرات من الوقود و نحن نحلق فوق طبقة من السحاب ، فإذا بي
ــ ومن خلال فتحه في السحاب ــ اشاهد طريق ترابي ، فأردت إبلاغ زميلي " محمد
" عن إمكانية الهبوط ، في هذه الأثناء انطفأ محرك طائرتي ، فأبلغت زميلي بأن
محرك طائرتي انطفأ و سأحاول الهبوط بالطائرة ، وحيث أنه لازال يملك القليل من
الوقود ، قال لي :
ـــ
حاول إن أستطعت .
ولم
أكن أنتظر جوابه في الواقع .
وأخبرني
بأنه سيستمر ولا يرغب في الهبوط ، وراودتني شكوك حينها ، ولكن لا مجال للتفكير فقد
اتخذت القرار ولا يوجد لدي الكثير من الخيارات ، إمّا القفز بالكرسي ، أو الهبوط
بالطائرة دون محرك ، وحيث أنني فوق منطقة عمليات ، و في حال الهبوط بالمضلة يكون
احتمال إصابتها كبير جدًا ، و طريقة الموت في هذه الحالة ستكون أصعب .
نعم
.. لقد كنت أفكر في الموت ، ولكن بطريقه أسهل !
الثواني
تمرّ ولم تفارق لساني آية الكرسي أبدًا ، إلا حين التحدث مع زميلي . قمت بالتأكد
من سرعة الطائرة المسموح بها لإنزال العجلات و سحبت مقبض العجلات للأسفل ، و سمعت
صوت العجلات و هي تنزل و أنطفأت ثلاث لمبات حمراء ، و أضاءت بدلها ثلاث لمبات
خضراء في إشارة ألى أن العجلات في وضعية نزول مؤمّنة ، وجهت الطائرة من خلال فتحت
السحاب و اتخذت زاوية ميلان حادّة و زاوية إنحدار كبيرة جدًا ، و بدأت النزول ،
كنت أعلم أن الطائرة ميغ 23 غير مصرح لها الهبوط بها بدون محرك يعمل ، و ذلك لثقل
وزنها الذي يبلغ 18800 كيلو جرام . ولذلك حاولت الهبوط بسرعة كبيرة جدًا ثلاث
أضعاف سرعة الهبوط الاعتيادية و قد كانت سرعة الطائرة على ارتفاع خمسون متر 600
كيلومتر في الساعة ، لم أكن أسمع شيئًا ولا أرى شيئًا سوى مكان الهبوط ، و كان
يحاذيني من اليسار نهر النيل ، و يميني غابة كثيفة ، و شاهدت ناس تجري باتجاه
الطائرة و لم أكن أعلم أهم من جيش السودان ؟ أم من حركة جون قرنق ؟ لا وقت للتفكير
حاولت المناورة و الهبوط بالطائرة .
و
الحمد لله هبطت الطائرة أخيرًا ، ولكن السرعة كانت كبيرة جدًا ، لا أدري كم كانت
بالضبط ، ولكن عندما قمت بالضغط على زر مضلة فرملة الطائرة Drag shut انفصلت مباشرة ، حيث أنها كانت
مبرمجة على الانفصال عندما تكون السرعة تزيد عن 330 كيلومتر في الساعة . و لكم أن
تتخيلوا هذه السرعة على طريق ترابي !!
لم
يكن بمقدوري إيقاف الطائرة بسبب السرعة الكبيرة رغم استخدام الفرملة اليدوية ،
ولكن إذا بحفرة وقعت بها العجلة اليسرى أدّت إلى حدوث انكسار بالعجلة و انحرفت
الطائرة يسارًا نحو النهر و لم تقف إلا بعد دخولها حوالي عشرة أمتار داخل مياه
النهر .
عندها
توقفت الطائرة بسبب الماء ، وبدأت أستمع إلى صوت الرائد " محمد " وهو
يناديني :
ـــ
" سليمان " أين أنت ؟
وظني
إنه كان يناديني منذ فترة ، لكنني لم أكن أسمعه ، فقلت له :
ـــ
أنا هبطت بسلام .
قلت
بسلام ، وأنا غير مصدق ذلك ، تفقدت نفسي ألا توجد إصابات ، ولم أجد شيء ظاهر بحمد
الله ، إلا جرح صغير جدًا أثناء محاولة الضغط على زر مضلة الفرملة و الذي كان محمي
بغطاء حتى لا تخرج عند الضغط عليه بالخطأ . وأخبرته :
ـــ
أنني بخير ، و ماذا عنك ؟
فقد
كان يطير طيرانًا شراعيًا ، أي أن محرك طائرته توقف كذلك .
وهذه
كانت آخر مكالمة معه ــ رحمة الله عليه ــ حيث عرفت فيما بعد أنه مرّ على آخر نقطة
للعدو ، و هناك أصيبت طائرته بصاروخ أرض جو ، و قفز بالكرسي و بعد هبوطه بالمضلة
حاول الاختباء في الغابة ، و وجدته فرق البحث التابعة لقوات جون قرنق ، وجدته
للأسف و قد هاجمته كلاب بريّة و كان في الرمق الأخير ، و نقل إلى مستشفى هناك ، و
توفى اليوم التالي إثر اصاباته البليغة ، اللهم أغفر له وأرحمه .
شاهدت
أجزاء من الطائرة أتو بها ، و لم يسمح لي بالذهاب إليه حين كان يحتضر ، أو معرفة
أين دُفن يومها ، وظني أن سبب المنع عدم وجود طريق آمن ، حيث كانت معظم الطرق في
تلك السنة غارقة بمياه الفيضان .
( 04 )
بعد أن استقرت الطائرة في الماء ،
لم يعد هناك وقت للتفكير ، كانت الأمور تتسارع ، و التأخير قد يؤدي إلى الهلاك .
على عجل قمت بإطفاء المفاتيح ، وفك
الأحزمة التي تحيط بي من كل جانب ، و قمت بفتح غطاء الكابين و الذي يفتح عن طريق
ضغط الهواء ، و الحمد لله فتح الغطاء و شعرت بأن الطائرة تغرق ، قفزت من الطائرة
مع التمسك بجانب الطائرة ، ولم تكن المياه عميقة ، حيث كان منسوبها يصل إلى مستوى
صدري ، خرجت مسرعًا باتجاه اليابسة ، لم يكن هناك أصوات إلا صوت المحرك الكهربائي
الذي لم أطفئ مفتاحه من ضمن المفاتيح . وصلت إلى اليابسة أخذت غرفة ماء بيدي من
النهر حيث كنت أشعر بعطش شديد .
كانت اللحظات تمرّ دون أن أتوقف عن
قراءة آية الكرسي . وقفت لاتخاذ القرار وكيف أتصرف ؟
نظرت إلى الغابة و تخيلت الحيوانات
المفترسة و المصير الذي ينتظرني في هذا الخيار . و نظرت يمينًا و شمالًا، رأيت
أشخاص يهرولون باتجاهي من مسافة بعيدة ، فاخترتُ أن أموت على يد البشر ، وأحسست أن
هذا أقل عنفًا .
قمت بردم الخريطة على حافة النهر ،
و قمت بمسح جهاز flight computer و أتخذت قراري بأنني سأنتظر ولن أهرب إلى
الغابة .
و فعلا وصل السكان المحليون ، ولم
يكن بينهم عسكري . لقد كان منظر لا ينسى بالنسبة لي ، كان منظرًا مذهلًا لنساء و
رجال منهم عُراة ، و منهم شبه عُراة يحملون سهام و يضعون على رؤوسهم ريش ، ووجوههم
بها سمات ــ علامات كالخدوش ــ على الجباه ، يوجد بأذرعهم أساور من ناب الفيل ، و
من النحاس ، و منهم من يضع قرون فوق رأسه !
وقفوا أمامي في شكل نصف دائرة و
خلفي النهر ، و بدأوا يتحدثون معي بلغة لا أعرفها ، ولكنني فهمت انهم يريدون مني
أن أرفع يدي إلى الأعلى فقمت برفع يدي ، و بدأوا الغناء و تحريك الأسهم في حركات
شبه هجومية و أنا متسمّر في مكاني و يداي إلى الأعلى و أنتظر مصيري ، كنت أقراء
آية الكرسي في سري ، و كنت أتخيل كيفية الموت في هذه الحرب .كم هو مؤلم ألا تعرف كيف ستموت !
كنت أفكر أنه في حال رأيت أحدا لديه
مسدس أو بندقية فسأقوم بمهاجمته حتى يتم قتلي سريعًا بسلاح غير الحراب .
الوقت يمرّ وهم يغنون وأنا مُرهق من
الأحداث التي مرّت بي و كذلك من الإستمرار في رفع يدي إلى الأعلى .
و في كل مرة أحاول خفض يداي يقومون
بزمجرة معينة و ينظرون إليّ بغضب ، فاضطر لرفها ولكني لم أستطع الصمود لوقت طويل ،
فقررت إنزالهما ولم ألقي بالًا لتهديدهم ، بل قمت بخلع الخوذة و رميتها بعيدًا ، و
خلعت بدلة الضغط ، و خلعت طوق النجاة life jacet و قمت بإفراغ محتويات جيوبي من علبة سجائر مالبورو و ولاعة و
كتاب صغير لحالات الطوارئ ، و خلعت ساعتي و أشرت لهم بأنه لا يوجد لديّ شيء آخر .
عندما لاحظوا أنني فقدت أعصابي ولم
أعد أهتم لتهديدهم ، و أنه أصابني الإعياء و التعب و ليس بحوزتي شيء قد يضرهم
استسلموا للواقع .
مرّت لحظات .. و جاءت مجموعة تهرول
و ترتدي قيافة عسكرية و معهم أجهزة اتصال ، قاموا بتفريق الأهالي و قاموا بتوجيه
البنادق نحوي ، و أفسحوا لي الطريق ، وبالإشارة فهمت انهم يريدون أن أرفع يداي
للأعلى و تقدم أحدهم بحذر كبير و قام بتفتيشي ، و من ثم أشاروا لي بالتقدم إلى
الأمام و سرنا حتى وصلنا إلى فناء به كوخ " قطية " ــ هكذا يسمونه ــ ،
وهو كوخ مصنوع من القش و الطين ، عندما نظرت داخل الفناء لاحظت وجود مكان إيقاد
النار و بجانبه جذع شجرة ميتة ، فخطر ببالي فيلم أميركي سبق أن شاهدته لطيار
أميركي تسقط به الطائرة في أدغال افريقيا ، وقاموا بربطه على جذع شجرة وأوقدوا
نارًا .
تخيلت ذلك و توقعت نفس المصير .
تم توجيهي إلى ذلك الكوخ ، و عندما
دخلت كانت الرائحة كريهة جدًا ، و كان هناك سرير بالي مرقع بجميع أنواع و ألوان
الحبال ، و لا يوجد عليه أي نوع من المفروشات ، وأشاروا لي بالجلوس ، فجلست بدأت
أتألم من قرص البق ، و البرغوث الذي كان مختبئ في السرير ، ولكن كانت ألم الأسر و
المصير المنتظر أكبر من ألم البق و الحشرات ، كنت أشعر أن شعر رأسي اصبح ابيض ــ
شيب ــ و أشعر بوجود طبقه من حجر الصوان فوق دماغي تمنعني من التفكير ، لم أعد
استطيع التفكير ، ذهن مشوش بطريقه جعلتني قد أرتكب أخطاء أو أفعال كبيرة ، إلى
درجة انه خطرت ببالي خطة غبية جدًا ، وهي أنه وأثناء وجودي في مدينة فرونزا /
بشكيك بقرقيزيا في الاتحاد السوفيتي أثناء التدريب على قيادة طائرة الميغ ، كان
معنا هناك طيار أثيوبي يدعى " توماس " ، وكان بيني و بينه شبه كبير إلى
درجة أن أصدقائي كانوا يقولون لي أنه أخوك ــ من باب التسلية ــ . أردت إبلاغهم
بأنني أثيوبي وأن اسمي " توماس " و دخلت السودان بالخطأ .
لهذا الحد توقف التفكير لدي !
(05)
دخل
ثلاث رجال يرتدون زيّا عسكريّا ، بدأ أحدهم بسؤالي باللغة الإنجليزية :
ـــ هل تتحدث الإنجليزية ؟
فأشرت له بالنفي ، رغبة مني
في كسب الوقت كي أستطيع التفكير ، ولكنه قطع عليّ ذلك الرجل الآخر الذي بدأ يقرأ
شعار السرب الذي كان يزين صدري الموضوع على بدلة الطيران ، و تلى الآتي وهو يشير
الى الشعار :
ـــ الجماهيرية العربية
الليبية الشعبية الاشتراكية ، قاعدة بنينا الجوية ، سرب 1060 . أكيد تتحدث العربية
؟
قالها بلغة استهزاء . الحمد
لله انني لم أبُح بما كان يجول في بالي من كذبه أنني اثيوبي .
وبعد أن استعدت أنفاسي قلت
له :
ـــ نعم ، أنا أتكلم العربية .
فقال لي :
ـــ هل تعرف جون قرنق ؟
هنا تبدد أي أمل بأن أكون
لدى الجيش السوداني ، و تأكدت أنني أسير لدى العدو الذي أتيت لقتاله .
وأستمر استجوابي ، وحيث أنهم
عرفوا أنني من ليبيا و تحديدا اتبع سرب 1060 . فتذكرت ما قلته لوالدتي بأننا
ذاهبون للسودان لتدريب طيارين . فأخبرتهم :
ـــ أننا من ليبيا و أتينا
لتدريب طيارين ، و نتيجة لتعطل الأجهزة الملاحية فقدنا اتجاه المطار .
قاموا بتسجيل اسمي و اسم
زميلي ، و نوع الطائرة و قاموا بإرسال هذه المعلومات الى قيادتهم و التي بدورها
نقلتها بشكل ما إلى إذاعة BBC . أما إذاعة السودان / أم درمان فقد أعلنت بأن خبيرين ليبيين
اختفت طائرتيهما جنوب السودان !
ابلغوني بأننا سنذهب الى
معسكر قريب . تحركنا داخل الغابة في طريق هو اشبه بممر بين الاشجار ، و كان الوقت
بعد المغرب و السماء بدأت تظلم المكان مخيف و الجو مشحون برائحة الموت و إعداد
كبيرة جدًا من البعوض بشكل لا يمكن وصفه و لا يمكن التعايش معه الى درجة أنني حين
كنت امسح على وجهي تتلطخ يدي بالدماء ، وأثناء مسيرنا في الغابة كانت هناك حشرات
تضيء وعندما شاهدتها لأول مرة كنت اعتقد انهم مجموعات تدخن سجائر ! كنا نمر على
عشش " قطيات " من حين لآخر ، و أخذ مني الأعياء و التعب مأخذًا ، و كذلك
حلقي جف من العطش و الجوع ، طلبت منهم بعض الماء توقفوا أمام احدى العشش و أتوا لي
بقِدر كبير جدًا به قليل من الماء شربت منه ، وصلنا المشي ما يقارب الخمس أو ست
ساعات ، وبعد أن وصلنا الي المكان أمروني بالجلوس على عرف شجرة ساقط على الأرض
وهنا بدأ البعوض بمهاجمتي بطريقة لا تحتمل ، و الحمد لله ان الأمر لم يطل كثيرا ،
فما هي إلا لحظات و سمعت صوت مولد كهرباء يتم تدويره و يفشل و اشتغل بعد عدة
محاولات ، إضاءة مجموعة من اللمبات .
تم نقلي الى عشة بها رائد و
نقيب يجلسان على كراسي مصنوعة يدويًا من أغصان الشجر و امامهما طاولة هي أيضا
مصنوعة من أغصان الشجر ، وفي المقابل كرسي آخر دعوني للجلوس عليه ، تم التحقيق و
سؤالي عن كل شيء اسمي كاملًا . المدارس التي درست بها ، والدتي ، أخوتي . اعمامي ،
أخوالي ، وخالاتي ، عماتي ، مقاسات ملابسي ، و حتى رقم الحذاء ومقاس القبعة ، كل
شيء .. كل شيء . اجبتهم على جميع الأسئلة و لم أجب عن الأسئلة المتعلقة بأسرار
عسكرية ، و تمسكت بأنني طيار مدرّب و نتيجة العطل في الأجهزة اتجهنا جنوبا و نفذ
الوقود . رغم أنهم لم يقتنعوا وهم متأكدون بأننا مقاتلون ، إلا انهم لم يجبروني
على أي شيء و لم اعامل بشكل غير انساني ، ولم توجه لي أية إهانة ، و علمت أخيرًا
ــ فيما بعد ــ أن هناك أوامر من جون قرنق بألاّ يمسني أحد بسوء .
ومع استمرار التحقيق ، لاحظ
أحدهم درجة الاعياء الظاهر علي ، فأعطاني سيجارة من التي كانت بحوزتي ، واشعلتها و
كانت آخر سيجارة في جنوب السودان ، كان كلما ينتهي التحقيق يبدأ من جديد إعادة
الأسئلة ، بعد أن اشتد بي التعب و الجوع و لم أعد استطيع التحكم في رأسي من شدة
النعاس . أخذوني للنوم في احدى العشش ، دخلت بها و قاموا باقفال المدخل بالأخشاب
رفعت الناموسية ــ مثل المظلة تحيط بالسرير حتى تمنع البعوض ــ و استلقيت على
السرير كان الفراش عبارة عن اسفنج بدون غطاء و بدون فوطة ومتسخ بشكل مزري لا يمكن
وصفه و كأنهم قد أتوا به من ورشة ميكانيكا ، اسدلت الناموسية ، و كان بداخلها
العديد من البعوض و لكني لم أشعر به نتيجة التعب و الإرهاق و التفكير في المصير
الذي ينتظرني . نمت و بعد قليل استيقظت على شيء كانه ماس كهربائي ، و سمعت صوت
يقترب مني و شعرت بنفس الشعور مرة أخرى ، وكان هذا الشيء عبارة عن خفاش يطير و
عندما يقترب من الناموسية يطلق ذبذبات ، لم استطيع النوم الا مع اقتراب الصباح و
انا أكاد ابكي من التعب و الإرهاق .
يتبع الحلقه 2
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق