نقلا
عن الطيار : Suliman Elshtiti
01
نعم إن مع العسر يسر .. الحمد لله
بعد شهر كامل شاهدنا السماء ، و استمتعنا بأشعة الشمس ، و استنشقنا الهواء النقي ،
الذي كان لا يصل إلينا ، ومما زاد الأمر سوءًا كان عندما يؤتى ببعض المساجين
يضعونهم في الزنزانات الاخرى بالغرفة رقم 7 ، كان الكثير منهم لا يستطيع الذهاب
الى الحمام لقضاء الحاجة من أثار الضرب المبرح الذي يتعرضون له في الغرفة رقم 0
قبل نقلهم للغرفة رقم 7 ، و كانوا يقضون حجاتهم بالزنزانات ! لا أحد يأتي لتنظيفها
، وتستمر الروائح الكريهة تنبعث منها لعدة أيام ، إلى أن يتعافى السجين المصاب و
ينظفها بنفسه ، و أحيانًا يخرج منها و لا يتم تنظيفها .
نعم بعد أن خرجنا ، أستشعرنا نِعم
الله الكثيرة التي تعوّدنا عليها ولم نعد نعرف قيمتها !
في هذا الوقت الذي كنا نقضيه خارج
الزنزانة ، التقيت العديد من الشخصيات التي كانت تحاول أن تتجاذب الحديث معي ،
كانوا ينظرون إليّ على أنني شخصية كبيرة ، وكنت أحاول عدم الاقتراب من الجميع ،
كنت أعلم أن بعض منهم رجال أمن زُرعوا بيننا للتجسس علينا ولتقفي الأخبار .
لكنني كنت استمع إلى قصصهم كنوع من
التسلية وتمضية الوقت .
منهم طيار مسجون منذ 24 سنة من حرب
اثيوبيا و الصومال ، و منهم رجل دين مسلم مسجون بسبب أفكاره و توجهاته ، ومنهم
وزير داخلية سابق ، معظمهم سجناء رأي .
الطريف أنه كان من بينهم منتخب
اثيوبيا لسنة 1991 ، كان في مصر لإجراء مباراة هناك ، ولكنهم قاموا بالاتصال
بالسفارة الاميركية لطلب اللجوء السياسي . و لكن الأمن المصري وشى بهم للحكومة
الأثيوبية ، فأرسلت لهم فريق أمني اثيوبي ، قام بحقنهم بنوع من المخدر غيبهم عن
الوعي ، لم يستيقظوا الا بعد هبوط الطائرة في اثيوبيا ، وزُفّوا جميعًا من المطار
إلى السجن مباشرة !
اثناء فترات خروجي من الزنزانة ،
لفت انتباهي أحدهم ويدعى " اماها " من مدينة أسمرة ــ العاصمة
الأريتيرية الآن ومنذ الإنفصال عن أثيوبيا في مايو 1993 ــ ، كان يتم اخراجه
صباحًا بعض الأحيان و يعود بعد ذلك ، قيل انه يذهب إلى المحكمة ، و لأنني شعرت
بارتياح لهذا الشخص ، قررت التقرب منه و جمع المعلومات عليه ، فقد علمت أنه تاجر
كبير ، وان لديه أخ ينتمي لحركة المعارضة الأريتيرية ضد الحكومة الاثيوبية ، و
تهمته كانت تقديم الدعم المالي للثوار ، حيث أن تجارته كانت مع ميناء عصب و
السعودية ، وكان الثوار يتخذون من السعودية مقرًا لهم ، و يحصلون على دعمها .
تبادلنا الحديث ، كان في الثلاثين
من العمر ، وكنت حينها أصغره بسنتين على وجه التقريب ، كان انسانًا مثقفًا . وبعد
أن استفتيت قلبي ، قررت أن أخبر الرجل بحقيقة أمري ، واستطعت ذلك رغم محاولات
الدكتور " شاو " أن لا يتركني منفردا مع أي سجين ، ولكن الأمر خرج عن
سيطرته ، فقد تحصلت على فرصة و أخبرته بحقيقة أمري وإن كان يمكنه مساعدتي .
و تفاجأت بردة فعله ..
02
كاد
" أماها " أن يفضح أمري من شدة فرحه ، فقد اخبرني انه أحبني في الله ،
أخبرني بأمره كذلك ، فهو أحد الثوار ، و فوق ذلك أن ليبيا تقدم لهم دعمًا كبيرًا
جدًا ، وقال لي :
ـــ
من هذه اللحظة أنت في معية الثوار ، و جميع طلباتك مُجابة .
فقلت
له :
ـــ
أنني أرغب أن تصل أخبار أسري إلى السفارة الليبية ، هذا كل ما أريد .
قال :
ـــ
أنا كثيرا ما أذهب إلى المحكمة ، و هناك ألتقي بأسرتي ، سأخبرهم بالذهاب إلى
السفارة ، وإبلاغها بمكان وجودك .
وكان
" أماها " منذ ذلك الحين أصبح يبالغ في إكرامي أنا و الدكتور " شاو
" إلى درجة أن كرمه صار مصدر حرج لي . لم يبخل عنا بشيء ، كان يحضر لنا
الفاكهة ، والسجائر ، والأكل . و لم يقف الأمر عند هذا الحد .
ذات
مرة أتى و جلس جانبي وقال لي :
ـــ
هل ترغب في العودة إلى ليبيا ؟
لم
أفهم ماذا يقصد !!
فواصل
الحديث معي :
ـــ
هنا في السجن مجموعة من الثوار . و هناك تنسيق مع القيادة لتهريبنا ، وإذا كنت
موافق ستكون معنا ، ولن يصيبك إلا ما يصيبنا .
الأمر
كان مفاجئًا لي ..
ولم
أكن أتوقع ذلك ، قال لي :
ـــ
لا تعطيني إجابة الآن ، فكّر في الأمر ثم أخبرني .. ولم أترك لنفسي فرصة التراجع
فقلت له :
ـــ
أنا موافق !
بعد
عودتي إلى الزنزانة ندمت على تسرعي ، و راودتني الكثير من الأفكار السيئة . ماذا
لو كشف أمرنا . ماذا لو لم تنجح خطة الهرب ، فقد استبعدت حينها فكرة إنه غير صادق
، فقد كان قلبي يحدثني بصدقه .
وقررت
أن أسلم أمري إلى الله ..
لقد
وافقت وانتهى الأمر ، و ما يريده الله سيحدث قطعًا .
نعم
.. لقد وافقت على الهرب مع مجموعة لا أعرف منهم أحد إلا " أماها " ، و
شخص آخر عرفته عن طريق " أماها " و يدعى " لاقازا " هو أيضا
له قصة أخرى عليّ أن أرويها لكم ..
كان
" لاقازا " يعيش مع والديه و إخوته . و عندما قرر الانضمام إلى الحركة
الثورية التي تقاتل ضد منغستوا هيلامريم ، و قبل ذهابه ، وأثناء توديعه ، وشعور
والده بأنه قد لا يلقاه مجددًا ، أبلغه والده بسرّ كان يخفيه عنه طيلة حياته ، وهو
أن السيدة التي تولت تربيته ليست والدته في الواقع ، و أن والدته الحقيقية ليبية
الجنسية و اسمها " مبروكة " من بنغازي و تحديدًا من منطقة الصابري ،
تزوجها والده أثناء عمله في ليبيا ، و بعد أن عاد إلى أثيوبيا عادت معه ، لكنها لم
تتأقلم الحياة في أثيوبيا ، و حاولت إقناعه بالعودة إلى ليبيا للعيش هناك مع
ولدهما الصغير ، لكن الزوج رفض ، كان يرغب في البقاء بأثيوبيا ، وذات مرة ، بعد أن
نسي زوجها أمر إلحاحها للعودة إلى ليبيا ، اقنعت زوجها برغبتها في زيارة أهلها في
ليبيا ، فسمح لها بشرط أن تترك ابنها الوحيد " لاقازا " حتى يضمن عودتها ..
و
ذهبت ولم تعد ، هذا كل ما عرف " لاقازا " عن أمه " مبروكة "
الليبية !
السجن
به العديد من القصص التي تُستحق أن تروى ، سواء من المشاهد التي رأيتها ، أو من
الحكايات التي سمعتها و كان يرويها لي الآخرين لقتل الوقت أو للترفيه .
كنت
أحاول ان لا أجلس كثيرًا مع " أماها " حتى لا أثير الشكوك ، وفي حديثي
مع الكثيرين . كنت أحاول فهم نشرات الأخبار ، و السؤال عن أخبار الثوار ، و علمت
أنهم وصلوا الى منطقة تدعى " دبرزيد " وهي منطقة قريبة من أديس أبابا ،
و كل يوم يزداد تقدم الثوار إلى أن أصبحت العاصمة في مرمى نيرانهم ، كنا نسمع
القذائف بوضوح و كثيرًا ما نسمع إطلاق نار ، و كثرت الأحاديث الجانبية بين
المساجين ، بين مؤيد للثوار وهم أغلبية ، و معارض للثوار وهم أقلية .
وفي
هذه الفترة أشتد بي المرض .
إنها
الملاريا اللعينة ، أعراضها مثل أعراض نزلة البرد ولكنها أضعاف مضاعفة .. إنها
قاتله إن لم تعالج ، و للأسف لم يهتم أحدًا من المسؤولين بحالتي ، ورغم المطالبات
العديدة ، فلم أحصل على الدواء ، وحتى بعد أن حاول " أماها " جلبه من
خارج السجن عن طريق الأسرة ، لم يفلح في إدخاله السجن ، فقد كان ممنوعًا إدخال الأدوية
، و العلاج يتم عن طريق طبيب السجن ، الذي لم أره طيلة مدة إقامتي و لم يزر أحدًا !
وأزداد
الأمر تعقيدًا ، كتبت عدة رسائل إلى آمر السجن عن طريق الحرس ، ولكن دون جدوى ، لم
يعد باستطاعتي الخروج ، ولا الأكل ، كنت أخرج فقط لقضاء الحاجة ، وبدأت و لأول مرة
تغزو جسمي الحشرات ، لم أعد استطيع السيطرة على جسدي المنهك ولا مقاومتها .
كان
الدكتور" شاو " ، قد حاول مساعدتي ، ولكن حتى مكتب حركة جون قرنق التي
يتبعها " شاو " انقطع عن الاتصال به ، والمؤسف أن الدكتور " شاو
" صار يُعامل كسجين ، لا يكترث أحد لكلامه ، حينها ظننت أنها النهاية ..
كنت
أتشهد و أتجهز للموت بعيدًا عن الأهل و الوطن ، و كان القصف يشتد ، مما زاد في
الرعب ، واختلطت أوراق الخوف من المجهول !
03
و
بينما أنا ملقى في الزنزانة ، و كان الدكتور " شاو " يشاهد التلفاز ،
أتى " أماها " لزيارتي ومعه بعض الفواكه و قال لي :
ـــ
يجب أن تأكل جيدًا و تقاوم المرض اليوم فجرًا موعدنا ، سيتم الهجوم على قصر
مانغستوا هيلامريم ، والذي لا يبعد كثيرًا عن السجن ، و في نفس الوقت سيتم مهاجمة
السجن و لدينا خطة للهرب .
جال
في خاطري عدة لاءات :
لا
أصدق ، لا استطيع ، لا يمكن .
المهم
حاولت أن أتناول الفواكه ، و خاصة الأناناس الحامض ، و نفسي تحدثني أن الفرصة أتت
متأخرة ، فأنا لا أستطيع النهوض ، كيف سأهرب ؟ " أجري ، أقفز ، قد أواجه
مقاومة و صراع " وأنا لا أقوى أن أنهض من مكاني ؟
بعد
منتصف الليل . أصبح القصف يقترب ، إلى أن أصبح صداه فوق رؤوسنا ، السقف يتحرك ،
ينهال بعض الغبار ، ننتظر أن يسقط علينا في أي لحظة .
استمر
ذلك ساعات من الترقب و الرعب ، لا أحد يستطيع النوم في مثل هذه الظروف ، سمعت طرق
على باب الزنزانة و سمعت " اماها " يناديني و يدفع الباب ، حينها نسيت
أنني مريض و سبحان الله ! كأن المرض زال ، و عادة لي قوتي ، اندفعت نحو الدكتور
" شاو " و أخبرته أننا سنهرب ك
ـــ
أما أن تأتي معنا أو تموت هنا ؟
لقد
كان خائفًا جدًا ، وقال لي :
ـــ
أنني لم أؤذيك ، أليس كذلك ؟
وتوسل
إلي أن يكون معنا ، وألا نتركه هنا .
أخذت
كيس به بعض حاجياتي و بدلة الطيران التي لا ازال احتفظ بها إلى الآن ، خرجنا صفًا
واحد في الظلام أنا خلف " اماها " و خلفي دكتور " شاو " .
شخص
ما فتح لنا الباب الكبير الذي يفصلنا عن الفناء ، و أخذنا نجري بوضع منحني تفاديًا
للرماية ، تمت رماية باتجاهنا سقط أحدهم ، لا وقت للتوقف ، ولا حتى للنظر لنرى من
هو ، خرجنا خارج السجن ، لم يكن من نفس المكان الذي دخلنا منه ، لم نصعد السلالم ،
كان الوقت يقارب الفجر ، خارج السجن ، كان الرصاص في كل مكان ، و الفوضى تعم
المكان ، الدبابات تشتبك في وسط الشوارع ، أمر مرعب .
انتشرنا
، لم يبقَ معي إلا دكتور " شاو " و " اماها " في آخر الشارع
دبابة ، اختبأنا خلف حائط ، و عندما مرّت قريبًا منا ، خرج " أماها "
فقد تعرّف عليهم من خلال الشعار الذي يحمله الثوار ، تحدث معهم ، ثم أشار لنا
بالخروج ، و أصبحنا نسير خلف الدبابة و في حمايتها إلى أن أوصلتنا إلى منطقة آمنة
، و رفعنا أيدينا لتحيتهم ، وتمت تحيّتنا من قبلهم أيضًا عن طريق عدة اطلاقات في
الهواء .
ما
أجمل أن تكون حرًا ..
تذهب
حيث أردت ..
تأكل
ما شئت و متى شئت ..
تتحدث
مع من تحب ..
كنت
أكاد أطير من الفرح ، فرحة لا توصف ..
كنا
نسير إلى منزل أخت " اماها " الذي لم يكن يبعد كثيرًا ، كان يظهر على
الدكتور " شاو " القلق ، صحيح إنه نجى من الموت تحت داخل السجن ، و لكنه
سيواجه قيادة الحركة حال عودته بدوني .
لم
يطل بنا الوقت في المسير ،
سرعان
ما وصلنا إلى المنزل ، استقبلونا بحفاوة قدموا لنا طعام الافطار ، ــ قراص مع
طبيخة عدس بالقديد ــ القراص هي الفطائر ــ .
وبعد
الهرب من السجن كنت أكثر قلقًا ، وكنت أفكر في كيفية العودة للوطن ، فأنا بدون
جواز سفر أو اي اثبات هوية ، كنت خائفًا أن يبحث عني مكتب حركة جون قرنق هنا في
أديس أبابا ، فطلبت من " اماها " أن نخرج و نبحث عن السفارة الليبية قبل
أن تستجد أمورًا أخرى .
و
بالفعل خرجنا ، رغم المخاطر ، وبعد البحث وجدنا السفارة المصرية ، كان يحيط بها
سور مرتفع جدًا و باب حديد ، حاولنا الاتصال عبر الإنتركام ولم يكن هناك رد ،
ويبدو أن المكان خالي حتى من الحرس ، كررنا البحث حتى تعبنا ، توجهنا إلى مطعم
لتناول العشاء ، كان المطعم يُدار من شخص من مدينة اسمرة ، و أثناء تجاذب أطراف
الحديث مع " اماها "، رفض صاحب قبض قيمة الوجبة بعد أن عرف أنني من
ليبيا ، من الواضح أن مدينة اسمرة كانت تعاني من نظام منغستو ، عدنا ادراجنا إلى
المنزل بعد رحلة بحث شاقة ، في منزل شقيقة " أماها " تم تخصيص غرفة بها
سريران ، أحدهما لي ، والآخر للدكتور " شاو " .
وبعد
أن استلقيت على السرير ، شعرت أن أعراض الملاريا عادت من جديد ، لم أستطع النوم
حتى الصباح .
بعد أن أستيقظ
الجميع عزمت على الذهاب و البحث من جديد عن مكان السفارة ، لم أنتظر الإفطار فقد
كنت أعاني من المرض ، و التأخير ليس في صالحي من جميع النواحي ، حاولوا اقناعي بأن
اذهب الى الطبيب ، ولكنني قررت الذهاب إلى حيث أجد سفارة بلدي ، أخبرنا صهر "
أماها " إنه يعرف رجل صاحب أحد المقاهي سبق وأن تعامل مع السفارة الليبية و
يعرف مكانها بالتحديد .
وبعد إصرار مني
خرج معنا و ذهبنا إلى المقهى الذي لم يكن بعيدًا ، أخترنا طاولة جلسنا عليها ،
طلبوا قهوة ، أما أنا فقد طلبت عصير برتقال طبيعي شاهدته يعصره ، كنت بحاجة إلى
شيء حامض ، طلبت كأسًا آخر ، لقد كانوا كرماء جدًا معي ، تحدثوا مع الرجل ، وحين
سألوه عن مكان السفارة ، قال :
ـــ نعم أنني
أعرف مكان السفارة جيدًا ..
خرج معنا و كنا
نسير خلفه و بعد مسافة أشار على مبنى جميل ، وقال لنا :
ـــ هذه هي
السفارة الليبية ..
ولكن للأسف ما
أن وصلنا المبني حتى وجدناها سفارة دولة أخرى أجنبية ، أعتذر الرجل كثيرا ، و
استدار الرجل ، ونحن وراءه إلى الجهة الأخرى ، وأشار إلى مبني آخر في نهاية الشارع
وكان شبيهًا بالمبنى الأول و قال :
ـــ هذه هي
السفارة ..
كنت أسير معهم و
أتضرع الى الله أن يكون الرجل صائبًا ، و أن نجد أحدهم في السفارة حيث أن في مثل
هذه الأحداث يغادر الجميع ، كان قلبي يخفق بقوة في انتظار النتيجة .
و كانت الفرحة
كبيرة جدًا عندما شاهدت جزءًا من العلم الليبي ، و الفرحة أكبر عندما قرأت على
اللوحة النحاسية على يمين الباب ( الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية
العظمى / المكتب الشعبي ) . فرحة لا توصف ، وجدنا الحراس يحيطون بالسفارة من كل
جانب ، ولم يُسمح لنا حتى بالوقوف فما بالك بالدخول ، رغم محاولات عدة من "
أماها " باءت كلها بالفشل ، فتدخلت و طلبت من " أماها " أن يسأل هل
يوجد أحد بالداخل فكانت الإجابة بنعم ، فقلت له :
ـــ أعطني ورقة
و قلم ، سأكتب لهم رسالة ، و أن لم يسمح لنا سأغادر .
وكتبت الآتي على
ما أذكر :
( السلام عليكم
سيادة السفير .. أنا سليمان خليفة الشطيطي ، ضابط طيار ليبي ، كنت أسيرًا لدى قوات
جون قرنق ، و أستطعت الهرب من السجن ، أمل السماح لي بالدخول .. )
.
وأعطيت الورقة
للحارس .
وبعد أن دخل
الحارس ، عاد مرة أخرى ، وقال :
ـــ لقد سُمح لك
أنت فقط بالدخول ..
فوافقت و طلبت
منهم الانتظار ، و عندما دخلت وجدتهم في حالة استعداد متخوفين ، وكانوا ثلاثة ،
السفير الصيد الترهوني من طرابلس / سوق الجمعة ، و القنصل محمد ساسي من مدينة درنة
، و إداري ابراهيم الزنتاني من الزنتان بمجرد أن شاهدوني ، سألني محمد ساسي :
ـــ هل انت
سليمان الشطيطي ؟
أجبت :
ـــ نعم ..
احتضنني بقوة
وهو يجهش بالبكاء ، ثم احتضنني السفير الصيد ، ثم إبراهيم ، و انهالت الأسئلة عن حالي
؟ فقد كان يبدو عليّ التعب و المرض و مع الشعر الطويل و الأظافر الغير مقلمة و
الملابس الرثة ، فأخبرتهم بشكل سريع :
ـــ أن معي من
ساعدني ، و اتمنى ان يسمح لهم بالدخول .
و فعلا أعطيت
الأوامر بدخولهم ، انتقلنا إلى قاعة كبيرة و جميلة جدًا بها مجموعة من صالونات
الجلد البيضاء ، تم شكر رفاقي كثيرًا على المساعدات التي قدموها لي ، وتم صرف
مبالغ مالية مجزية لهم ، و تم إعطائهم أرقام هواتف السفارة ، و غادروا بعد الوداع .
أما أنا فقد
أبلغوني بأنه كانت هناك صفقة مع حركة جون قرنق لتسليمي مقابل مبلغ ثلاثة مليون
دولار .
وبعد تبادل بعض
الأسئلة ، اخبرتهم أنني مريض ملاريا واحتاج ، كلاورفين فقالوا لي :
ـــ لا تقلق ..
كل شيء سيكون كما تريد .
بعد قليل
اخبروني أن الحمام جاهز ، وجدت به كل شيء ملابس داخلية بدلة عربية مناشف فرشة
اسنان مع معجون ، معدات حلاقة ، لا أدري كم استغرقت من الوقت ، ولكن بعد خروجي و
ضعت الملابس القديمة في كيس للتخلص منها ، وجدتهم قد جهزوا لي غرفة بها سرير و
جهاز تلفاز و فيديو و كذلك مسجل به شريط الاغاني المطرب الليبي محمد حسن ، رغم
أنني لم أكن من محبي أغانيه ، الا أنني كنت أشعر بسعادة كبيرة ، بعد أن استلقيت على
السرير مباشرة ذهبت في نوم عميق ، لم أشعر بشيء إلا بعد أن فتحت عيناي و جدتهم قد
اتصلوا بطبيبة و قد كانت في انتظار أن أستيقظ ، و كان معها اجهزة و أدوية ، قامت
بإجراء التحاليل و الكشف الكامل ، و استمر العلاج حتى انتهاء الكورس ، و أخبرتني
بأنه و الحمد لله أن الملاريا لم تصل إلى الكبد ، و إلا لكان الوضع أكثر تعقيدًا .
05
الحمد لله ، لو وصلت الملاريا إلى الكبد لتحولت
إلى
chronic malaria . هذا ما قالته لي الطبيبة ، تذكرت
حينها كلام جماعة جون قرنق :
( انت ما تموت تاني يا زول ) !!
هههههه الظاهر أنهم كانوا صادقين ، أستغفر الله
..
قضيت شهرًا كاملًا تقريبًا في مبنى السفارة ، قام الرجل
الفاضل القنصل بالسفارة الليبية محمد ساسي ، باستخراج جواز سفر لي ، و قال لي
:
ـــ والله أنت تستحق جواز سفر دبلوماسي . و لكن للأسف لا
يوجد لدينا الآن ..
كنا جميعًا نقيم في مبنى السفارة بسبب الوضع الأمني في
العاصمة الأثيوبية ، و كنا نتناول الطعام معا فقد كانت توجد طباخة اثيوبية كانت
قبل عملها بالسفارة تعمل في ليبيا لدى شخصيات كبيرة نافذة في حقبة القذافي ، لذلك
كانت تجيد الأكل الليبي ، و أحيانا كنا نخرج نتنزه بالسيارة و كانت أديس أبابا
جميلة جدًا ، ذهبنا إلى السوق الدبلوماسي و اشترينا جميع احتياجاتي
.
طبعًا تواصلت بالأسرة و وعدتهم أنني سأكون بينهم قبل عيد
الأضحى المبارك أن شاء الله .
ثمة مشكلة إجرائية كانت تواجهنا ، تتمثل في ختم الدخول
إلى اثيوبيا !! إذ من الصعب السماح لي بمغادرة المنافذ الرسمية الأثيوبية دون وجود
ختم على جواز سفري يبين تاريخ دخولي ، والجهة الرسمية التي عبرت منها
.
و أثناء اجتماع السيد السفير الصيد الترهوني ، مع أعضاء
قيادة الثورة الجدد ، طالبوا السفير خلال هذا الإجتماع تزويدهم بوقود ، و بعد
موافقة الجهات الرسمية في ليبيا على هذا الطلب ، استغل السيد السفير الفرصة و عرض
عليهم أمر ختم الجواز الخاص بي ، بعد أن شرح لهم تفاصيل الموضوع ، وفعلا تحصلت على
إجراءات سليمة ، جواز سفر و ختم دخول ، و كنت متلهفًا للعودة ..
استطعنا الحصول على حجز تذكرة سفر و العودة إلى ليبيا عن
طريق القاهرة ، و رافقني هذه الرحلة السيد ابراهيم الزنتاني ، بعد وصولنا إلى
القاهرة ، كان أعضاء من السفارة الليبية هناك في انتظارنا في المطار ، و تم نقلنا
إلى الفندق بسيارة مراسم ، وقد رفع هذا الاستقبال من معنوياتي كثيرًا ، و في اليوم
التالي أنتقلنا إلى المطار بسيارة مراسم وعُوملنا كدبلوماسيين ، كان ذلك اليوم
يصادف يوم كبيرة عيد الأضحى .
و بعد أن هبطت بنا الطائرة في مطار طرابلس العالمي ،
وجدنا في استقبالنا وفد مكلف من القيادة العامة ، أذكر منهم السيد خيري خالد و
العميد فرج بو غالية و العميد غيث ابراهيم غيث الذي كان يشغل وظيفة مدير إدارة
الشهداء و الأسرى والمفقودين و جرحى الحرب ، و السيد مدير مطار طرابلس العالمي .
وابلغوني أنهم مكلفين من قبل القائد الأعلى باستقبالي ، و حمّدوا لي على سلامتي ،
و ابلغوني أنني على رأس قائمة المكرمين .
كما قالوا لي أن طائرة طرابلس / بنغازي تنتظرني و أنه تم
تأخيرها بسببي ، و الركاب بداخلها ، وأخذني السيد فرج بو غالية جانبًا و أخذ مني
بعض الافادات عن زميلي المرحوم الرائد محمد راغب ، و عني كذلك ، و قام بتسليمي
مبلغ مالي و إجازة مفتوحة . و أخبرني أنه علي الالتحاق بإدارة شؤن الشهداء و
الأسرى و المفقودين و جرحى الحرب ،
و أخبرنا مدير المطار بأننا تأخرنا كثيرًا على الطائرة ،
وبعد توديعي ابلغوني بأنه يوجد وفد في استقبالي في مطار بنينا ، وأخذني مدير مطار
طرابلس من يدي الى الطائرة من مدخل غير المدخل المعتاد حيث نزلنا إلى الأسفل و
دخلنا الطائرة من الباب الخلفي .
كنت أحتسب الوقت دقيقة بدقيقة ، و لحظة بلحظة ، و ما أن
هبطت الطائرة في بنغازي حتى خرجت وسط الركاب و لم أنتظر أحد من كبار المستقبلين ،
وهم لم يتعرفوا عليّ في زحمة ركاب الطائرة ، توجهت إلى محطة سيارات الأجرة ، ركبت
السيارة و أبلغته بالانطلاق ، توقفت أمام منزلي .. وقمت بالضغط علي زر الجرس .. و
فتح الباب .. و كانت لحظات اللقاء التي لا تنسى أبدًا .
انطلقت الزغاريد ، و اجتمع الأهل و الأصدقاء و الأقارب ،
و الحمد لله رب العالمين .
.
إلى هنا تنتهي القصة . وتبداء معناة ما بعد العودة
..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق