الثلاثاء، 4 يناير 2022

  قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان .... الحلقه 6 (الاخيره)

نقلا عن الطيار : Suliman Elshtiti 

01

نعم إن مع العسر يسر .. الحمد لله بعد شهر كامل شاهدنا السماء ، و استمتعنا بأشعة الشمس ، و استنشقنا الهواء النقي ، الذي كان لا يصل إلينا ، ومما زاد الأمر سوءًا كان عندما يؤتى ببعض المساجين يضعونهم في الزنزانات الاخرى بالغرفة رقم 7 ، كان الكثير منهم لا يستطيع الذهاب الى الحمام لقضاء الحاجة من أثار الضرب المبرح الذي يتعرضون له في الغرفة رقم 0 قبل نقلهم للغرفة رقم 7 ، و كانوا يقضون حجاتهم بالزنزانات ! لا أحد يأتي لتنظيفها ، وتستمر الروائح الكريهة تنبعث منها لعدة أيام ، إلى أن يتعافى السجين المصاب و ينظفها بنفسه ، و أحيانًا يخرج منها و لا يتم تنظيفها .
نعم بعد أن خرجنا ، أستشعرنا نِعم الله الكثيرة التي تعوّدنا عليها ولم نعد نعرف قيمتها !
في هذا الوقت الذي كنا نقضيه خارج الزنزانة ، التقيت العديد من الشخصيات التي كانت تحاول أن تتجاذب الحديث معي ، كانوا ينظرون إليّ على أنني شخصية كبيرة ، وكنت أحاول عدم الاقتراب من الجميع ، كنت أعلم أن بعض منهم رجال أمن زُرعوا بيننا للتجسس علينا ولتقفي الأخبار .
لكنني كنت استمع إلى قصصهم كنوع من التسلية وتمضية الوقت .
منهم طيار مسجون منذ 24 سنة من حرب اثيوبيا و الصومال ، و منهم رجل دين مسلم مسجون بسبب أفكاره و توجهاته ، ومنهم وزير داخلية سابق ، معظمهم سجناء رأي .
الطريف أنه كان من بينهم منتخب اثيوبيا لسنة 1991 ، كان في مصر لإجراء مباراة هناك ، ولكنهم قاموا بالاتصال بالسفارة الاميركية لطلب اللجوء السياسي . و لكن الأمن المصري وشى بهم للحكومة الأثيوبية ، فأرسلت لهم فريق أمني اثيوبي ، قام بحقنهم بنوع من المخدر غيبهم عن الوعي ، لم يستيقظوا الا بعد هبوط الطائرة في اثيوبيا ، وزُفّوا جميعًا من المطار إلى السجن مباشرة !
اثناء فترات خروجي من الزنزانة ، لفت انتباهي أحدهم ويدعى " اماها " من مدينة أسمرة ــ العاصمة الأريتيرية الآن ومنذ الإنفصال عن أثيوبيا في مايو 1993 ــ ، كان يتم اخراجه صباحًا بعض الأحيان و يعود بعد ذلك ، قيل انه يذهب إلى المحكمة ، و لأنني شعرت بارتياح لهذا الشخص ، قررت التقرب منه و جمع المعلومات عليه ، فقد علمت أنه تاجر كبير ، وان لديه أخ ينتمي لحركة المعارضة الأريتيرية ضد الحكومة الاثيوبية ، و تهمته كانت تقديم الدعم المالي للثوار ، حيث أن تجارته كانت مع ميناء عصب و السعودية ، وكان الثوار يتخذون من السعودية مقرًا لهم ، و يحصلون على دعمها .
تبادلنا الحديث ، كان في الثلاثين من العمر ، وكنت حينها أصغره بسنتين على وجه التقريب ، كان انسانًا مثقفًا . وبعد أن استفتيت قلبي ، قررت أن أخبر الرجل بحقيقة أمري ، واستطعت ذلك رغم محاولات الدكتور " شاو " أن لا يتركني منفردا مع أي سجين ، ولكن الأمر خرج عن سيطرته ، فقد تحصلت على فرصة و أخبرته بحقيقة أمري وإن كان يمكنه مساعدتي .
و تفاجأت بردة فعله ..

 

 

02


كاد " أماها " أن يفضح أمري من شدة فرحه ، فقد اخبرني انه أحبني في الله ، أخبرني بأمره كذلك ، فهو أحد الثوار ، و فوق ذلك أن ليبيا تقدم لهم دعمًا كبيرًا جدًا ، وقال لي :
ـــ من هذه اللحظة أنت في معية الثوار ، و جميع طلباتك مُجابة .
فقلت له :
ـــ أنني أرغب أن تصل أخبار أسري إلى السفارة الليبية ، هذا كل ما أريد .
قال :
ـــ أنا كثيرا ما أذهب إلى المحكمة ، و هناك ألتقي بأسرتي ، سأخبرهم بالذهاب إلى السفارة ، وإبلاغها بمكان وجودك .
وكان " أماها " منذ ذلك الحين أصبح يبالغ في إكرامي أنا و الدكتور " شاو " إلى درجة أن كرمه صار مصدر حرج لي . لم يبخل عنا بشيء ، كان يحضر لنا الفاكهة ، والسجائر ، والأكل . و لم يقف الأمر عند هذا الحد .
ذات مرة أتى و جلس جانبي وقال لي :
ـــ هل ترغب في العودة إلى ليبيا ؟
لم أفهم ماذا يقصد !!
فواصل الحديث معي :
ـــ هنا في السجن مجموعة من الثوار . و هناك تنسيق مع القيادة لتهريبنا ، وإذا كنت موافق ستكون معنا ، ولن يصيبك إلا ما يصيبنا .
الأمر كان مفاجئًا لي ..
ولم أكن أتوقع ذلك ، قال لي :
ـــ لا تعطيني إجابة الآن ، فكّر في الأمر ثم أخبرني .. ولم أترك لنفسي فرصة التراجع فقلت له :
ـــ أنا موافق !
بعد عودتي إلى الزنزانة ندمت على تسرعي ، و راودتني الكثير من الأفكار السيئة . ماذا لو كشف أمرنا . ماذا لو لم تنجح خطة الهرب ، فقد استبعدت حينها فكرة إنه غير صادق ، فقد كان قلبي يحدثني بصدقه .
وقررت أن أسلم أمري إلى الله ..
لقد وافقت وانتهى الأمر ، و ما يريده الله سيحدث قطعًا .
نعم .. لقد وافقت على الهرب مع مجموعة لا أعرف منهم أحد إلا " أماها " ، و شخص آخر عرفته عن طريق " أماها " و يدعى " لاقازا " هو أيضا له قصة أخرى عليّ أن أرويها لكم ..
كان " لاقازا " يعيش مع والديه و إخوته . و عندما قرر الانضمام إلى الحركة الثورية التي تقاتل ضد منغستوا هيلامريم ، و قبل ذهابه ، وأثناء توديعه ، وشعور والده بأنه قد لا يلقاه مجددًا ، أبلغه والده بسرّ كان يخفيه عنه طيلة حياته ، وهو أن السيدة التي تولت تربيته ليست والدته في الواقع ، و أن والدته الحقيقية ليبية الجنسية و اسمها " مبروكة " من بنغازي و تحديدًا من منطقة الصابري ، تزوجها والده أثناء عمله في ليبيا ، و بعد أن عاد إلى أثيوبيا عادت معه ، لكنها لم تتأقلم الحياة في أثيوبيا ، و حاولت إقناعه بالعودة إلى ليبيا للعيش هناك مع ولدهما الصغير ، لكن الزوج رفض ، كان يرغب في البقاء بأثيوبيا ، وذات مرة ، بعد أن نسي زوجها أمر إلحاحها للعودة إلى ليبيا ، اقنعت زوجها برغبتها في زيارة أهلها في ليبيا ، فسمح لها بشرط أن تترك ابنها الوحيد " لاقازا " حتى يضمن عودتها ..

و ذهبت ولم تعد ، هذا كل ما عرف " لاقازا " عن أمه " مبروكة " الليبية !
السجن به العديد من القصص التي تُستحق أن تروى ، سواء من المشاهد التي رأيتها ، أو من الحكايات التي سمعتها و كان يرويها لي الآخرين لقتل الوقت أو للترفيه .
كنت أحاول ان لا أجلس كثيرًا مع " أماها " حتى لا أثير الشكوك ، وفي حديثي مع الكثيرين . كنت أحاول فهم نشرات الأخبار ، و السؤال عن أخبار الثوار ، و علمت أنهم وصلوا الى منطقة تدعى " دبرزيد " وهي منطقة قريبة من أديس أبابا ، و كل يوم يزداد تقدم الثوار إلى أن أصبحت العاصمة في مرمى نيرانهم ، كنا نسمع القذائف بوضوح و كثيرًا ما نسمع إطلاق نار ، و كثرت الأحاديث الجانبية بين المساجين ، بين مؤيد للثوار وهم أغلبية ، و معارض للثوار وهم أقلية .

وفي هذه الفترة أشتد بي المرض .
إنها الملاريا اللعينة ، أعراضها مثل أعراض نزلة البرد ولكنها أضعاف مضاعفة .. إنها قاتله إن لم تعالج ، و للأسف لم يهتم أحدًا من المسؤولين بحالتي ، ورغم المطالبات العديدة ، فلم أحصل على الدواء ، وحتى بعد أن حاول " أماها " جلبه من خارج السجن عن طريق الأسرة ، لم يفلح في إدخاله السجن ، فقد كان ممنوعًا إدخال الأدوية ، و العلاج يتم عن طريق طبيب السجن ، الذي لم أره طيلة مدة إقامتي و لم يزر أحدًا !
وأزداد الأمر تعقيدًا ، كتبت عدة رسائل إلى آمر السجن عن طريق الحرس ، ولكن دون جدوى ، لم يعد باستطاعتي الخروج ، ولا الأكل ، كنت أخرج فقط لقضاء الحاجة ، وبدأت و لأول مرة تغزو جسمي الحشرات ، لم أعد استطيع السيطرة على جسدي المنهك ولا مقاومتها .
كان الدكتور" شاو " ، قد حاول مساعدتي ، ولكن حتى مكتب حركة جون قرنق التي يتبعها " شاو " انقطع عن الاتصال به ، والمؤسف أن الدكتور " شاو " صار يُعامل كسجين ، لا يكترث أحد لكلامه ، حينها ظننت أنها النهاية ..
كنت أتشهد و أتجهز للموت بعيدًا عن الأهل و الوطن ، و كان القصف يشتد ، مما زاد في الرعب ، واختلطت أوراق الخوف من المجهول !

03


و بينما أنا ملقى في الزنزانة ، و كان الدكتور " شاو " يشاهد التلفاز ، أتى " أماها " لزيارتي ومعه بعض الفواكه و قال لي :
ـــ يجب أن تأكل جيدًا و تقاوم المرض اليوم فجرًا موعدنا ، سيتم الهجوم على قصر مانغستوا هيلامريم ، والذي لا يبعد كثيرًا عن السجن ، و في نفس الوقت سيتم مهاجمة السجن و لدينا خطة للهرب .
جال في خاطري عدة لاءات :
لا أصدق ، لا استطيع ، لا يمكن .
المهم حاولت أن أتناول الفواكه ، و خاصة الأناناس الحامض ، و نفسي تحدثني أن الفرصة أتت متأخرة ، فأنا لا أستطيع النهوض ، كيف سأهرب ؟ " أجري ، أقفز ، قد أواجه مقاومة و صراع " وأنا لا أقوى أن أنهض من مكاني ؟
بعد منتصف الليل . أصبح القصف يقترب ، إلى أن أصبح صداه فوق رؤوسنا ، السقف يتحرك ، ينهال بعض الغبار ، ننتظر أن يسقط علينا في أي لحظة .
استمر ذلك ساعات من الترقب و الرعب ، لا أحد يستطيع النوم في مثل هذه الظروف ، سمعت طرق على باب الزنزانة و سمعت " اماها " يناديني و يدفع الباب ، حينها نسيت أنني مريض و سبحان الله ! كأن المرض زال ، و عادة لي قوتي ، اندفعت نحو الدكتور " شاو " و أخبرته أننا سنهرب ك
ـــ أما أن تأتي معنا أو تموت هنا ؟
لقد كان خائفًا جدًا ، وقال لي :
ـــ أنني لم أؤذيك ، أليس كذلك ؟
وتوسل إلي أن يكون معنا ، وألا نتركه هنا .
أخذت كيس به بعض حاجياتي و بدلة الطيران التي لا ازال احتفظ بها إلى الآن ، خرجنا صفًا واحد في الظلام أنا خلف " اماها " و خلفي دكتور " شاو " .
شخص ما فتح لنا الباب الكبير الذي يفصلنا عن الفناء ، و أخذنا نجري بوضع منحني تفاديًا للرماية ، تمت رماية باتجاهنا سقط أحدهم ، لا وقت للتوقف ، ولا حتى للنظر لنرى من هو ، خرجنا خارج السجن ، لم يكن من نفس المكان الذي دخلنا منه ، لم نصعد السلالم ، كان الوقت يقارب الفجر ، خارج السجن ، كان الرصاص في كل مكان ، و الفوضى تعم المكان ، الدبابات تشتبك في وسط الشوارع ، أمر مرعب .
انتشرنا ، لم يبقَ معي إلا دكتور " شاو " و " اماها " في آخر الشارع دبابة ، اختبأنا خلف حائط ، و عندما مرّت قريبًا منا ، خرج " أماها " فقد تعرّف عليهم من خلال الشعار الذي يحمله الثوار ، تحدث معهم ، ثم أشار لنا بالخروج ، و أصبحنا نسير خلف الدبابة و في حمايتها إلى أن أوصلتنا إلى منطقة آمنة ، و رفعنا أيدينا لتحيتهم ، وتمت تحيّتنا من قبلهم أيضًا عن طريق عدة اطلاقات في الهواء .
ما أجمل أن تكون حرًا ..
تذهب حيث أردت ..
تأكل ما شئت و متى شئت ..
تتحدث مع من تحب ..
كنت أكاد أطير من الفرح ، فرحة لا توصف ..
كنا نسير إلى منزل أخت " اماها " الذي لم يكن يبعد كثيرًا ، كان يظهر على الدكتور " شاو " القلق ، صحيح إنه نجى من الموت تحت داخل السجن ، و لكنه سيواجه قيادة الحركة حال عودته بدوني .
لم يطل بنا الوقت في المسير ،
سرعان ما وصلنا إلى المنزل ، استقبلونا بحفاوة قدموا لنا طعام الافطار ، ــ قراص مع طبيخة عدس بالقديد ــ القراص هي الفطائر ــ .
وبعد الهرب من السجن كنت أكثر قلقًا ، وكنت أفكر في كيفية العودة للوطن ، فأنا بدون جواز سفر أو اي اثبات هوية ، كنت خائفًا أن يبحث عني مكتب حركة جون قرنق هنا في أديس أبابا ، فطلبت من " اماها " أن نخرج و نبحث عن السفارة الليبية قبل أن تستجد أمورًا أخرى .
و بالفعل خرجنا ، رغم المخاطر ، وبعد البحث وجدنا السفارة المصرية ، كان يحيط بها سور مرتفع جدًا و باب حديد ، حاولنا الاتصال عبر الإنتركام ولم يكن هناك رد ، ويبدو أن المكان خالي حتى من الحرس ، كررنا البحث حتى تعبنا ، توجهنا إلى مطعم لتناول العشاء ، كان المطعم يُدار من شخص من مدينة اسمرة ، و أثناء تجاذب أطراف الحديث مع " اماها "، رفض صاحب قبض قيمة الوجبة بعد أن عرف أنني من ليبيا ، من الواضح أن مدينة اسمرة كانت تعاني من نظام منغستو ، عدنا ادراجنا إلى المنزل بعد رحلة بحث شاقة ، في منزل شقيقة " أماها " تم تخصيص غرفة بها سريران ، أحدهما لي ، والآخر للدكتور " شاو " .
وبعد أن استلقيت على السرير ، شعرت أن أعراض الملاريا عادت من جديد ، لم أستطع النوم حتى الصباح .

 04

بعد أن أستيقظ الجميع عزمت على الذهاب و البحث من جديد عن مكان السفارة ، لم أنتظر الإفطار فقد كنت أعاني من المرض ، و التأخير ليس في صالحي من جميع النواحي ، حاولوا اقناعي بأن اذهب الى الطبيب ، ولكنني قررت الذهاب إلى حيث أجد سفارة بلدي ، أخبرنا صهر " أماها " إنه يعرف رجل صاحب أحد المقاهي سبق وأن تعامل مع السفارة الليبية و يعرف مكانها بالتحديد .

وبعد إصرار مني خرج معنا و ذهبنا إلى المقهى الذي لم يكن بعيدًا ، أخترنا طاولة جلسنا عليها ، طلبوا قهوة ، أما أنا فقد طلبت عصير برتقال طبيعي شاهدته يعصره ، كنت بحاجة إلى شيء حامض ، طلبت كأسًا آخر ، لقد كانوا كرماء جدًا معي ، تحدثوا مع الرجل ، وحين سألوه عن مكان السفارة ، قال :
ـــ نعم أنني أعرف مكان السفارة جيدًا ..
خرج معنا و كنا نسير خلفه و بعد مسافة أشار على مبنى جميل ، وقال لنا :
ـــ هذه هي السفارة الليبية ..
ولكن للأسف ما أن وصلنا المبني حتى وجدناها سفارة دولة أخرى أجنبية ، أعتذر الرجل كثيرا ، و استدار الرجل ، ونحن وراءه إلى الجهة الأخرى ، وأشار إلى مبني آخر في نهاية الشارع وكان شبيهًا بالمبنى الأول و قال :
ـــ هذه هي السفارة ..
كنت أسير معهم و أتضرع الى الله أن يكون الرجل صائبًا ، و أن نجد أحدهم في السفارة حيث أن في مثل هذه الأحداث يغادر الجميع ، كان قلبي يخفق بقوة في انتظار النتيجة .
و كانت الفرحة كبيرة جدًا عندما شاهدت جزءًا من العلم الليبي ، و الفرحة أكبر عندما قرأت على اللوحة النحاسية على يمين الباب ( الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى / المكتب الشعبي ) . فرحة لا توصف ، وجدنا الحراس يحيطون بالسفارة من كل جانب ، ولم يُسمح لنا حتى بالوقوف فما بالك بالدخول ، رغم محاولات عدة من " أماها " باءت كلها بالفشل ، فتدخلت و طلبت من " أماها " أن يسأل هل يوجد أحد بالداخل فكانت الإجابة بنعم ، فقلت له :
ـــ أعطني ورقة و قلم ، سأكتب لهم رسالة ، و أن لم يسمح لنا سأغادر .
وكتبت الآتي على ما أذكر :
( السلام عليكم سيادة السفير .. أنا سليمان خليفة الشطيطي ، ضابط طيار ليبي ، كنت أسيرًا لدى قوات جون قرنق ، و أستطعت الهرب من السجن ، أمل السماح لي بالدخول .. ) .
وأعطيت الورقة للحارس .
وبعد أن دخل الحارس ، عاد مرة أخرى ، وقال :
ـــ لقد سُمح لك أنت فقط بالدخول ..
فوافقت و طلبت منهم الانتظار ، و عندما دخلت وجدتهم في حالة استعداد متخوفين ، وكانوا ثلاثة ، السفير الصيد الترهوني من طرابلس / سوق الجمعة ، و القنصل محمد ساسي من مدينة درنة ، و إداري ابراهيم الزنتاني من الزنتان بمجرد أن شاهدوني ، سألني محمد ساسي :
ـــ هل انت سليمان الشطيطي ؟
أجبت :
ـــ نعم ..
احتضنني بقوة وهو يجهش بالبكاء ، ثم احتضنني السفير الصيد ، ثم إبراهيم ، و انهالت الأسئلة عن حالي ؟ فقد كان يبدو عليّ التعب و المرض و مع الشعر الطويل و الأظافر الغير مقلمة و الملابس الرثة ، فأخبرتهم بشكل سريع :
ـــ أن معي من ساعدني ، و اتمنى ان يسمح لهم بالدخول .
و فعلا أعطيت الأوامر بدخولهم ، انتقلنا إلى قاعة كبيرة و جميلة جدًا بها مجموعة من صالونات الجلد البيضاء ، تم شكر رفاقي كثيرًا على المساعدات التي قدموها لي ، وتم صرف مبالغ مالية مجزية لهم ، و تم إعطائهم أرقام هواتف السفارة ، و غادروا بعد الوداع .
أما أنا فقد أبلغوني بأنه كانت هناك صفقة مع حركة جون قرنق لتسليمي مقابل مبلغ ثلاثة مليون دولار .
وبعد تبادل بعض الأسئلة ، اخبرتهم أنني مريض ملاريا واحتاج ، كلاورفين فقالوا لي :
ـــ لا تقلق .. كل شيء سيكون كما تريد .
بعد قليل اخبروني أن الحمام جاهز ، وجدت به كل شيء ملابس داخلية بدلة عربية مناشف فرشة اسنان مع معجون ، معدات حلاقة ، لا أدري كم استغرقت من الوقت ، ولكن بعد خروجي و ضعت الملابس القديمة في كيس للتخلص منها ، وجدتهم قد جهزوا لي غرفة بها سرير و جهاز تلفاز و فيديو و كذلك مسجل به شريط الاغاني المطرب الليبي محمد حسن ، رغم أنني لم أكن من محبي أغانيه ، الا أنني كنت أشعر بسعادة كبيرة ، بعد أن استلقيت على السرير مباشرة ذهبت في نوم عميق ، لم أشعر بشيء إلا بعد أن فتحت عيناي و جدتهم قد اتصلوا بطبيبة و قد كانت في انتظار أن أستيقظ ، و كان معها اجهزة و أدوية ، قامت بإجراء التحاليل و الكشف الكامل ، و استمر العلاج حتى انتهاء الكورس ، و أخبرتني بأنه و الحمد لله أن الملاريا لم تصل إلى الكبد ، و إلا لكان الوضع أكثر تعقيدًا .


05

 

الحمد لله ، لو وصلت الملاريا إلى الكبد لتحولت إلى chronic malaria . هذا ما قالته لي الطبيبة ، تذكرت حينها كلام جماعة جون قرنق :
( انت ما تموت تاني يا زول ) !!
هههههه الظاهر أنهم كانوا صادقين ، أستغفر الله ..
قضيت شهرًا كاملًا تقريبًا في مبنى السفارة ، قام الرجل الفاضل القنصل بالسفارة الليبية محمد ساسي ، باستخراج جواز سفر لي ، و قال لي :
ـــ والله أنت تستحق جواز سفر دبلوماسي . و لكن للأسف لا يوجد لدينا الآن ..
كنا جميعًا نقيم في مبنى السفارة بسبب الوضع الأمني في العاصمة الأثيوبية ، و كنا نتناول الطعام معا فقد كانت توجد طباخة اثيوبية كانت قبل عملها بالسفارة تعمل في ليبيا لدى شخصيات كبيرة نافذة في حقبة القذافي ، لذلك كانت تجيد الأكل الليبي ، و أحيانا كنا نخرج نتنزه بالسيارة و كانت أديس أبابا جميلة جدًا ، ذهبنا إلى السوق الدبلوماسي و اشترينا جميع احتياجاتي .
طبعًا تواصلت بالأسرة و وعدتهم أنني سأكون بينهم قبل عيد الأضحى المبارك أن شاء الله .
ثمة مشكلة إجرائية كانت تواجهنا ، تتمثل في ختم الدخول إلى اثيوبيا !! إذ من الصعب السماح لي بمغادرة المنافذ الرسمية الأثيوبية دون وجود ختم على جواز سفري يبين تاريخ دخولي ، والجهة الرسمية التي عبرت منها .
و أثناء اجتماع السيد السفير الصيد الترهوني ، مع أعضاء قيادة الثورة الجدد ، طالبوا السفير خلال هذا الإجتماع تزويدهم بوقود ، و بعد موافقة الجهات الرسمية في ليبيا على هذا الطلب ، استغل السيد السفير الفرصة و عرض عليهم أمر ختم الجواز الخاص بي ، بعد أن شرح لهم تفاصيل الموضوع ، وفعلا تحصلت على إجراءات سليمة ، جواز سفر و ختم دخول ، و كنت متلهفًا للعودة ..
استطعنا الحصول على حجز تذكرة سفر و العودة إلى ليبيا عن طريق القاهرة ، و رافقني هذه الرحلة السيد ابراهيم الزنتاني ، بعد وصولنا إلى القاهرة ، كان أعضاء من السفارة الليبية هناك في انتظارنا في المطار ، و تم نقلنا إلى الفندق بسيارة مراسم ، وقد رفع هذا الاستقبال من معنوياتي كثيرًا ، و في اليوم التالي أنتقلنا إلى المطار بسيارة مراسم وعُوملنا كدبلوماسيين ، كان ذلك اليوم يصادف يوم كبيرة عيد الأضحى .
و بعد أن هبطت بنا الطائرة في مطار طرابلس العالمي ، وجدنا في استقبالنا وفد مكلف من القيادة العامة ، أذكر منهم السيد خيري خالد و العميد فرج بو غالية و العميد غيث ابراهيم غيث الذي كان يشغل وظيفة مدير إدارة الشهداء و الأسرى والمفقودين و جرحى الحرب ، و السيد مدير مطار طرابلس العالمي . وابلغوني أنهم مكلفين من قبل القائد الأعلى باستقبالي ، و حمّدوا لي على سلامتي ، و ابلغوني أنني على رأس قائمة المكرمين .
كما قالوا لي أن طائرة طرابلس / بنغازي تنتظرني و أنه تم تأخيرها بسببي ، و الركاب بداخلها ، وأخذني السيد فرج بو غالية جانبًا و أخذ مني بعض الافادات عن زميلي المرحوم الرائد محمد راغب ، و عني كذلك ، و قام بتسليمي مبلغ مالي و إجازة مفتوحة . و أخبرني أنه علي الالتحاق بإدارة شؤن الشهداء و الأسرى و المفقودين و جرحى الحرب ،
و أخبرنا مدير المطار بأننا تأخرنا كثيرًا على الطائرة ، وبعد توديعي ابلغوني بأنه يوجد وفد في استقبالي في مطار بنينا ، وأخذني مدير مطار طرابلس من يدي الى الطائرة من مدخل غير المدخل المعتاد حيث نزلنا إلى الأسفل و دخلنا الطائرة من الباب الخلفي .
كنت أحتسب الوقت دقيقة بدقيقة ، و لحظة بلحظة ، و ما أن هبطت الطائرة في بنغازي حتى خرجت وسط الركاب و لم أنتظر أحد من كبار المستقبلين ، وهم لم يتعرفوا عليّ في زحمة ركاب الطائرة ، توجهت إلى محطة سيارات الأجرة ، ركبت السيارة و أبلغته بالانطلاق ، توقفت أمام منزلي .. وقمت بالضغط علي زر الجرس .. و فتح الباب .. و كانت لحظات اللقاء التي لا تنسى أبدًا .
انطلقت الزغاريد ، و اجتمع الأهل و الأصدقاء و الأقارب ، و الحمد لله رب العالمين .
.
إلى هنا تنتهي القصة . وتبداء معناة ما بعد العودة ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق