الثلاثاء، 4 يناير 2022

 

قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان .... الحلقه 2

نقلا عن الطيار : Suliman Elshtiti

(01)


ومع طلوع الضوء رحل الخفاش و كذلك البعوض و استطعت أن أنام و لكنهم حاولوا إيقاضي فرفضت و بعد عدت محاولات أجبروني علي الاستيقاظ ، نهضت و سرت حيث مكان التحقيق منحني الظهر متظاهر بأنني مصاب ، لا أدري لماذا ولكن اعتقد انه محاولة مني حتي استدر عطفهم ولا يتم تعذيبي ، و صلت الى مكان التحقيق و ابتدأ من جديد نفس الروتين و ابلغهم الرائد المسؤول على التحقيق بنقلي الي المستشفى للعلاج ، بعد أن مشينا سيرا علي الأقدام و انا امثل دور المصاب و جدت أمامي ما جعلني أندم على ادعاء المرض ، فقد مررنا على الطابور متجاوزين المرضى الذين كانت حالاتهم خيالية !! منهم من ارجله متورمة بشكل غير طبيعي و جرحى و مصابين إصابات بليغه طابور من العشرات و بأمراض و إصابات غريبه ، وصلنا باب المستشفى الذي كان مقام على أحد المباني الملحقة بكنيسة ، دخلنا المنظر مريع ، رائحة كريهة ، دكتور يرتدي معطف ابيض ، تحول لونه الى الرمادي من الاوساخ ، طاولة و كرسي دولاب ادويه يكاد يكون فارغ ، بابور ــ موقد صغير ــ يعمل بالجاز كنا نستخدمه في ليبيا للطهي و يوجد على البابور اناء به حقنة يتم تطهيرها، كل ذلك جعلني الغي فكرة المرض بتاتا، عندما سالني الطبيب عن شكواي اخبرته بسبب الحبوب التي سببها البعوض. و الحمد لله لم يدخل معي الحرس لكانت مجازفة كبيرة ان أسلم له ظهري ، المهم لم يكن لديه أي شيء يصرفه لي فأخذ قطعة من الورق ولفها و سكب فيها قليل من بودرة الجروح، و أخبرني أن امسح بها ، و خرجت مسرعا و احمد الله على أنني لم أكن مصاب حقيقه
علمت أخيرا ان هذه المدينة اسمها بور ، و المكان الذي هبطت فيه يسمي ( مراح كلمرق ) ويا للمصادفة بور هذه مدينة قبيلة الدينقا التي ينتمى إليها جون قرنق ، و مراح كلمرق هو مسقط رأس جون قرنق . في مثل هذا الظرف يقول الليبيون ، ( خشيت على الضبع في قطرته ) .
استمر التحقيق أيام و كان هناك ملازم أول يتبع جهاز الاستخبارات يدعى شاتيلا، ، لن انسى اسم هذا الضابط رغم انه لم يؤذني ولكنه كان ينقلني الى أماكن يتم فيها تعذيب بعض الأسرى من جيش السودان. ارى ملابسهم العسكرية ملطخة بالدماء اسمع أصوات صياحهم و شاهدة عيون أحدهم من تحت الباب الذي يرتفع عن الأرض حوالى 15cm. بعد ما يقارب من أربعة أيام تم نقلي الى عشه أخرى، و علمت أن العشة التي كنت بها تخص امر المنطقة و يدعى ،( كوال مانيا ) . أتى الآمر، و دبت حركة من التنظيف و التنظيم التي كانت تنم على قدوم شخصية كبيرة ، بعد أن اطلع على التحقيق استدعاني الي مكتبه و كان معي الملازم شاتيلا و الحرس المناوب . دخل شاتيلا اولا ثم سمح لي بالدخول ، رجل طويل جدا ، شديد السواد ، يكاد يختفى بياض عيناه و يتحول الى الاحمر ، دعاني للجلوس جلست طرح على بعض الأسئلة و لم تقنعه اجاباتي ، كان ينظر الي بشكل مخيف خلافا عن كل من لاقيتهم ، كان يتحدث عربي و لكن لم أفهم منه كلمة فكان شاتيلا يترجم بيننا من العربي الى العربي ، ابلغنا بانتهاء الاستجواب و علينا المغادرة ، عند خروجي لا حظت نظرات غريبة بين الحرس و الملازم شاتيلا و بعد أن ابتعدنا قليلا حدثني قائلا :
ـــ انت لن تموت ابدا يا زول .
فقلت :
ـــ لماذا ؟
قال لي :
ـــ أنت أول شخص مذنب يخرج من مكتب القائد " كول منيا دون عقاب ، أقل شخص دخل يصفعه ، ومنهم من يُقتل فورا ، قائد كعب ( صعب ) .
وقصّ علي بعض الحكايات عنه وأنه قائد جبار يعتمد عليه " جون قرنق " كثيرا ، و لم يخسر اي منطقة اطلاقا و لم يخسر اي حرب دخلها ، و قال انه خسر مرة واحدة حيث هجم الجيش السوداني على موقعه و كان الهجوم بالطائرات جوا و أرضا و جنوده لم يستطيعوا الصمود أمام قوة النيران فهربوا و انتشروا في الغابة و كان هو ومعه نفر قليل و بعد شدة القتال انسحب ، و حاول جمع جنوده من الغابة و قال لهم لن أعود و انا منهزم ، سنعود و نسترجع الموقع و لكن الغالبية رفض العودة معه بعد أن انهكهم التعب ، فقال لهم انا ذاهب وحدي ومن يريد أن يذهب يتبعني و تبعه مجموعة قليلة جدا ، وهم في طريقهم فإذا بطائرة تلاحقهم فقاموا بالرماية عليها و سقطت فهنا جميع جنوده ارتفعت معنوياتهم و عادوا اليه و فعلا تم تحويل الخسارة الي نصر .

(02)

 طيلة مدة إقامتي هناك كان الناس يأتون باستمرار و يرغبون في رؤيتي و كان شخص نزل من كوكب آخر، أما بالنسبة للأكل فلا يملكون شيء يؤكل كل ما لديهم مجموعة من الأبقار فقط ولا شيء آخر لا خضر ولا بهارات ولا ملح ولا اي شيء على الإطلاق فقط بقر يذبحون بقرة و يطبخون لحمها في ماء و توزع ، لا أحد يشبع، يأكلون وجبتان في اليوم إفطار عند الساعة الحادية عشر ، و عشاء عند السادسة مساء تقريبا ، مجاعة حقيقية .

و امراض الملاريا منتشرة بسبب كثرة البعوض الذي يكثر مع الغروب ، لا أحد يستطيع البقاء خارج الناموسية ، جثث منتشرة غير بعيدة وبعد ان تتحلل ويخرج منها الزيوت يطلقون عليها رصاص حارق خارق لتضيء المكان و تبعد البعوض ،
أغلبهم ينام في العراء ، حياة لا يمكن وصفها ولا يمكن توقعها . بعد أيام قدم مجموعة مشيا على الأقدام ، منهم طبيب يدعى " د شاو " و السيد " ياسر عرمان " الذي ترشح لرئاسة السودان كما شاهدته من سنوات مضت ، و كذلك شخص يدعى ادوارد لينوا كان سجين سياسي عدد من المرات فترة حكم النميري و الصادق المهدي ، و هو من أعضاء الحزب الشيوعي ، و معهم إعلاميون و اجهزة تصوير ، ابلغوني اننا سنذهب الى حيث الطائرة للتصوير هناك ، و فعلا ذهبنا و عندما دخلوا الماء و قاموا بتنظيف الطائرة بالماء و مسحها بالقش ، وفجاءة أثناء مسح مكان العلم زال الطلاء المكون للعلم السوداني ، فأمرهم بالتوقف عن المسح و قام بتصوير المشهد بالفيديو و قام بسؤالي :
ـــ ما هذا ؟
قلت له :
علم السودان ..
فقال لي
ـــ و ماذا ظهر تحت علم السودان ؟
فقلت له :
ـــ طلاء اخضر .
ـــ وما لون علم ليبيا ؟
ـــ أخضر .
فأخذ مكبر الصوت و قال : هذا علم ليبيا و تم طلائه يعلم السودان !
هذه المجموعة التي أتت تم إرسالها من قبل جون قرنق شخصيا ، و ذلك لتصوير فيديو يودون نشره لدى سفارات الدول الإفريقية ، لإثبات أن الدول العربية تدعم عرب السودان في الشمال ، ضدهم في الجنوب وهم من أصول افريقيا ..
نعم تحدث أحد الإعلاميين في المايك و قال :
" ما تشاهدون هو طائرة ليبية تحمل علم ليبيا وتم طلائها بالوان علم السودان ، ثم قام بتصوير أحدهم هو يقوم بالرماية في الهواء في محاولة منهم لإثبات انهم هم من أسقط الطائرة ، بعدها طلب مني التقدم و الصعود الى الطائرة ، و بعد أن تقدمت وجدت أن كرسي الطائرة تم سرقة محتوياته من مضلة و أحزمة و كل المحتويات و ابقوا فقط على هيكل حديدي ، و حيث أن الكرسي مجهز بعدد اثنان صاروخ إطلاق ، عند الضغط على مقابض القفز تنفجر و تقذف الكرسي الي ارتفاع حوالي 86m من ارتفاع الطائرة وهو الارتفاع الآمن الذي يسمح بفتح المضلة ، و هذه الصواريخ يجب أن تكون مؤمنة بواسطة مسامير تسمى سيفتي بنز .(safety pins) .ولا تنزع الا بعد صعود الطيار و ربط الاحزمة ، و يتم إعادتها في أماكنها قبل نزول الطيار و قبل نزع الاحزمة .
امروني بالصعود الي الطائرة و الجلوس على الكرسي لتصويري و كأنهم يقبضون علي ، رفضت الصعود بسبب خطورة الأمر و الصواريخ بدون تأمين و عدم وجود مضلة ولا أحزمة ، إلا أنهم لم يفهموا كلامي و اعتقدوا أنني لا ارغب في التصوير فقاموا بإجباري عن طريق سحب الأقسام و اشهار السلاح .
توكلت على الله و صعدت بحذر كبير جدا و انا أتلو اية الكرسي ، تم تصويري وانا انزل من الطائرة و سمعت المعلق يتحدث بأنهم أسقطوا الطائرة ، نزلت وانا احمد الله أن الكرسي لم يخرج والا لكنت سقطت من ارتفاع 86m دون مضلة .
أثناء خروجي من مياه النهر التصق بساقي حشرات غريبة تمتص الدماء شكلها دائري و لها ارجل حادة صفراء غرست أرجلها بساقي ولم أتمكن من نزعها الا مع الجلد ، حياه صعبة جدا كل شيء فيها ينال منك !

(03)

 انتهى تصوير الفيلم و عدنا سيرًا على الأقدام ، كانت المجموعة التي أرسلها جون قرنق " ياسر عرمان ، و ادوارد لينو ، دكتور شاو " لطفاء جدًا ربما لأنهم كانوا متعلمين ، ومقربين من قيادة الحركة ، كنا نجلس نتحدث بود ، لم يتعاملوا معي كأسير ، ولما كنت لا أتناول الأكل إلا القليل جدًا بسبب طريقة إعداده السيئة ، حيث كان يعد في برميل ، و أحيانًا يكون اللحم به رائحة نتنة ، مما يجعلني أتوقف عن التنفس أثناء تناوله حتى لا أشم رائحته ، و نتيجة لذلك بدأ يظهر عليّ الوهن . نصحوني انه يجب أن أكل جيدًا لأننا سنذهب إلى منطقة أخرى بعيدة نسبيًا سيرًا على الأقدام لمدة تقارب أربعة أيام ، و هذه الرحلة تتطلب أن أكون قويًا ، حاولت الأكل و قد جاءوا إليّ بسمكة ، و كذلك بحليب أبقار . و استعدينا الرحلة . .

حاولت الأكل قدر المستطاع ، رغم خوفي من التعب نتيجة المشي المستمر لأربعة أيام ، ولكنني في المقابل كنت فرحًا بمغادرة هذا المكان الذي يحيط به الموت من كل جانب . أخبروني أننا سنمر في بداية الرحلة بمنطقة غارقة في مياه الفيضان ، وأنه علينا أن نمشي إلى ذلك المكان و نبيت هناك و نبدأ الرحلة مع ظهور أول الضوء في اليوم التالي ، حتى نستطيع أن نكون خارج الماء قبل أن يحل الظلام ، المدة كانت حوالي 12 ساعة مشي سريع كي نتجاوز الماء قبل الظلام . قضينا تلك الليلة في العراء ، ثم استأنفنا المسير داخل الماء ، و كان الأمر صعب بالنسبة لي ، فالسير في الماء يتطلب مهارات خاصة و أنا لم أجربه من قبل ، و كذلك كنت أرتدي حذاءًا عسكريًا و نتيجة لبقاء رجلي في الماء فترة طويلة بدأت أصابع قدماي بالتسلخ ، و طلبوا مني خلع الحذاء ، و فعلا خلعت الحذاء و حملته على رقبتي بعد أن ربطته ببعضه ، وكانت المياه ترتفع حتى تصل إلى مستوى الصدر ، و أحيانًا ينخفض المنسوب لتصل إلى الركبة ، ــ ربما بفعل المد والجزر ، أو تغير تضاريس الأرض تحت الماء ــ ، وعندما يقل منسوب المياه تظهر تحت أقدامنا الأسماك التي تتسبب جروحًا في الأقدام ، و لم يكن هذا أسوأ شيء في الواقع ، بل كان الأسوأ عندما نمرّ بمنطقة جافة فكأننا نسير فوق سكاكين مدببة ، خاصة أن الأقدام رطبة من طول البقاء في الماء .
وررغم الحرص ، فشلنا أن نخرج من الماء في الوقت المحدد قبل حلول الظلام ، و اضطررنا للصعود فوق الأشجار .
وأستمر المسير و الألم لمدة ثلاثة أيام ، لا نستريح إلا عشرة دقائق تقريبًا ثم نستأنف المسير ، وجباتنا كانت بليلة ــ وهي ذرة مطبوخة ــ و نشرب الماء و ندخن سيجارة محلية يطلقون عليها اسم" كودكود " ، كان المسير بخطوات مفتوحة و السير في خط مستقيم واحد خلف الآخر في طابور ، كان الطابور طويل لأن هناك الكثير من الأهالي يستغلون ذهاب الجماعات المسلحة لمرافقتهم بغرض النزوح بعيدًا عن مناطق العمليات ، كنت كلما اكتنفني القلق من المصير المجهول الذي ينتظرني ، أنظر إلى تلك المرأة التي رافقتنا في تلك المسيرة الطويلة و هي تحمل فوق رأسها قفّة مليئة بأواني و حصير و معدات ، فترتفع معنوياتي نسبيًا .
كانوا خلال مسيرتهم يستخدمون قانون النمل ، نعم المتوقف يموت ، لا مجال للتعب و لا للمرض ، وحين تصاب تترك لمصيرك ، لا يستطيع أحد أن يحملك أو يقدم لك المساعدة ، بالكاد يستطيع أن يساعد نفسه .
في اليوم الثالث قاموا باصطياد طائر حبارة و غزال و كذلك زرافة ، تم تقطيعها إلى أجزاء و حُمّل كل جزء على كتف أحدهم ، و كذلك الكرش حمله شخص آخر فوق كتفه .
كانت أصعب اللحظات في تلك المسيرة لحظة الشروع في السير بعد التوقف للاستراحة ، كانت الشمس حارقة ، والأقدام مرتعشة من التعب والجوع ، فكانت لا تكاد تحمل الأجساد المنهكة ! كان الوضع مأساويًا لي ولرفاق الرحلة أيضًا ، لأنه لا خيار لهم ، إما الإستمرار ، أو الموت .
و وصلنا إلى منطقة تدعى " جوك مير " ،
وصلنا هذه المنطقة منتصف النهار ، فبمجرد وصولنا أخذت حمام لإزالة العرق وأثار الغبار ، و دخلت المكان المحدد لي و هو عشة بها سرير ، كانت تلك العشة بمثابة قصر ، استلقيت على السرير وكانت من أجمل اللحظات .
لا أدري كم استغرقت في النوم ، لكنني استيقظت على رائحة شواء ، و تمنيت أن يكون لي نصيب منه ، فمنذ هبوطي بالطائرة لم أتناول شيئاً شهيًا ولم أشبع بتاتًا ، ما هي إلا لحظات ، حتى دخل أحدهم بصحن مليء بلحم محمّر بسمن و فطائر و لبن .
الله .. الله ..
لم أنتظر أحد ولم اسأل أحد ، أكلت و لأول مرة أشبع و أكل دون أن أكتم نفسي ! كانت أفضل وجبة اكلتها طيلة مدة الأسر .
نعم شبعت نوم ، ثم شبعت أكل .
و لكن كان الأسوأ بعد ذلك !
فقد أن أعطُيَ الأمر بمتابعة المسير ، كان ذلك صعب جدًا ، الجو حار و الجسم منهك و مثقل .
بدأنا المسير بصعوبة أكبر من قبل .
و في اليوم التالي صباحًا بدأ أحدهم يستنشق الهواء ويكرر هذا الفعل بطريق ملحوظة ، ثم يعلن :
ـــ لقد أقتربنا من الوصول !!
وعلمت فيما بعد انهم يعرفون المنطقة برائحة الأبقار في المراح !
بدأت تظهر أمامنا منطقة صغيرة بها عشش .
الحمد لله أخيرا وصلنا ، لمنطقة " بيبور " ، و هناك يوجد مهبط طائرات عمودية ، و لن نسير على الأقدام بل ستنقلنا طائرة .
تم توجيهي إلى إحدى العشش التي خصصت لي . دخلت استلقيت على سرير مصنوع من أغصان الشجر ولكنه كان وثيرًا بالنسبة لي تلك اللحظة ، نمت ولم أشعر بشيء ، و بعد أن استيقظت حاولت النهوض فلم أستطع ، لقد أصيب نصفي السفلي بالشلل ، لم أعد أحسّ به اطلاقا ولا استطيع التحكم به !!
ـــ يا إلهي .. ما الذي أصابني ؟
هكذا حدّثت نفسي ..
كانت لدي رغبه بالبكاء ، حاولت ولم أستطع النهوض مرة أخرى ، سحبت رجلي اليمنى قليلا ثم الرجل اليسرى و هكذا إلى ان وصلت الرجل اليمنى حافة السرير فسقطت على الأرض دون أن استطيع التحكم بها ، وكأنها خالية من أية أعصاب . سحبت الرجل الاخرى كذلك و جلست ، طلبت أحدهم ، وأخبرته بالأمر ، فطمأنني بأن الأمر طبيعي و سيزول بعد قليل ، .
وانتظرت بفارغ الصبر ، و فعلا بدأت أحسّ بالحياة تدبّ برجلي الاثنتين تدريجيًا ، حاولت الوقوف و كأنني طفل يتعلم المشي ، الحمد لله عادت الحياة إلى رجلي التي تورمت ، لكن الأمر لم يكن مقلقًا مثل اللحظات الأولى من استيقاظي ..
المشكلة الاخرى التي واجهتنا ، أنه لا يوجد لديهم أي شيء يؤكل .
في الصباح ابلغوني أن الطائرة آتيه ، وهي التي ستنقلنا ، سعدت كثيرا عندما سمعت صوت الطائرة .
ولكنها للأسف لم تستطيع الهبوط بسبب الضباب الكثيف ، عادت من حيث أتت ، و تركتنا لمعاناة الجوع .
كان الأكل عبارة عن عظام أبقار مطبوخة في ماء ، نقوم بشرب الماء ، ثلاثة أيام قضيتها هناك على هذا النسق ، لم استطيع دخول الحمام ، اكرمكم الله ..

 

(04)

 سمعت صوت الطائرة ، و الحمد لله أنها استطاعت الهبوط في اليوم الثالث ، قاموا بعصب عيني و ربط يدي إلى الخلف و قادوني إلى الطائرة ، من خلال عملي في السلاح الجوي و خبرتي . خمّنت أن الطائرة من نوع Mi8 و كذلك سمعت الطيارين يتحدثون الروسية بطلاقة و بلكنة روسية ، اعتقد انهم من روسيا و تأكدت من خلال الصوت الذي صدر عن الأحذية التي كان يستخدمها الطيارين الروس والتي كنت أنا شخصيا أستخدمها أثناء تدريبي في روسيا . يبدو أنها طائرة روسية مستأجرة بطاقم قيادتها .

وأقلعت الطائرة متجهة إلى مدينة " قمبيلة " في أثيوبيا ، الحمد لله على كل حال ، فقد ابتعدت عن مناطق القتال و الجثث و البعوض و اتمني أن تكون الأوضاع أفضل هناك .
بعد أن هبطت الطائرة في مطار " قمبيلة " ، قادوني إلى غرفة ، وعندما ازالوا الرباط عن عيني وجدت نفسي في غرفة عمليات أو ما يشبه بدالة كبيرة ، فرحت كثيرا لأنه لأول مرة أجد نفسي في غرفة من أول يوم في الأسر، و فرحت أيضا عندما أعطى أحدهم الأمر لإحضار وجبة إفطار لي ، و بعد فترة قصيرة جيء بالإفطار و هو عبارة فول مدمس و رغيف خبز و شاهي .
و لكن للأسف لم يكد يضع الصحون حتى تم إبلاغهم بالمغادرة فورا !
كانت فرحة ما تمت كما ترون !! .
عصبوا عيني مرة أخرى ، و قيدوا يدي ، و خرجنا و ركبنا السيارة ، التي انطلقت بنا و كانت الطريق جبلية وعرة ، وبعد فترة من السير تعطلت السيارة و توقفت عن المسير . كنا نتجه إلى جبال بونقو ــ سميت كذلك بسبب نبات حشيش البانقو الذي ينبت بكثرة في هذه الجبال ــ . و كانت وجهتنا مركز قيادة حركة تحرير السودان بقيادة جون قرنق في أثيوبيا .
بعد تعطل السيارة . تم نقلنا إلى سيارة اخرى ، سيارة نقل مفتوحة من الخلف قاموا بمساعدتي للركوب و أجلسوني وكان ظهري للكابينة ، و يجلس أحدهم فوق سقف الكابينة و يدلي برجليه من فوق رأسي ، و عن يساري أحد الحراس الآخرين ، أما عن يميني فيوجد نمر ! نعم كان هناك نمر يقوم جون قرنق بتربيته و كان ملاصقا لكتفي الأيمن ، طبعا لم أكن أعلم بذلك كنت أشعر ببطنه عندما تتحرك السيارة أو تنعطف و كنت أشعر بأنفاسه ، و كنت خائفًا جدًا لاعتقادي أنه كلب كبير !
لا أدري ماذا كنت سأفعل لو أنني علمت أنه نمر !
كان معي أسيران آخران من السودان . أحدهما من الشمال من منطقة " عطبرة " و الآخر من جنوب السودان يدعى " مودي " سلطان إحدى القبائل ، و حيث أن " مودي " لم يكن معصوب العينين فقد خاف من النمر و رفض الصعود ولكنهم حملوه و قذفوه في السيارة و سقط على رأسه .
كل هذا كنت أستمع اليه ولم ارَ شيئًا ، لأنني كنت معصوب العينين ، و لكني علمته فيما بعد .
سارت السيارة بين الجبال إلى أن وصلنا ، ولم تكن المسافة بعيده . بعد أن وصلنا إلى معسكر الرئاسة نزلنا في إحدى العشش . بعد أن فك رباطي و فتحت عيناي ، هنا وجدت " محمد " و " مودي " و تبادلت الحديث مع " محمد " حيث انه كان من الشمال و يتكلم العربية بطلاقة ، و هناك تناولنا وجبة الإفطار ، و بعدها تم نقلي إلى المكان الذي يتواجد به جون قرنق .

نزلت من السيارة معصوب العينين ، كنت أسمع هتافات كثيرة جدًا و غناء ، قادوني إلى مكان مرتفع قليلا ، صعدت و هناك تم ازالة الرباط عن عيني  ،  ويا لهذا المشهد .

 خلفي كان يجلس جون قرنق و علي جانبيه المجلس العسكري و السياسي ، أما امامي مباشرة قرابة مئة ضابط ، علمت انه حفل تخريجهم ، و خلفهم عدة كتائب مسلحة ، مسماة بأسماء قادة أفارقة " نيلسون مانديلا ، سامورا ميشيل ، نيكروما ، جمال عبد الناصر " و يحيط بنا من كل جانب الحرس الخاص مدججين بأنواع الأسلحة

كان يومًا أشبه بيوم القيامة ــ استغفر الله ــ ، منظر رهيب جدًا ، كان هناك صحافة محلية تصور ، و ملفي أمام جون قرنق ، كنت أشاهد كل هذا بأم عيني ، أما عقلي و لساني كان يتلو آية الكرسي باستمرار ، كنت أظن أنه يوم الإعدام .
كنت أستشعر الموت أو أكاد أراه



(05)

 توقف الجميع عن الهتاف ، و بدأ جون قرنق الحديث بلغة الدينقا المحلية ، لم أكن أنصت لأنني لا أفهم ما يقول ، ثم أن عقلي و قلبي و لساني مع آية الكرسي ، بعد مرور وقت قصير ، سمعت " جون قرنق " يذكر اسمي بالعربي ، و كرر الاسم ، وهنا ألتفت إليه و بدأ يسالني :

ـــ لماذا بعثك القذافي ؟

لم أجب عليه بل فضلت السكوت ، قال لي

ـــ أنت محظوظ .. القذافي صديقي .

وأشار إلى الكرسي الذي يجلس عليه و قال :

ـــ على هذا الكرسي ، وفي هذا المكان سنة 1983 كان يجلس الرائد عبدالسلام جلود.

 و قال أيضًا بعد أن أشار إلى الأسلحة :

ـــ كل هذه الأسلحة من ليبيا ، لولا ليبيا و دعمها ما كانت للحركة أن تقف على رجليها.

لم أرغب في الحديث ، حيث أنني سأكون في مأزق في الحالتين ، فواصل حديثه قائلًا

 ـــ نحن نتعامل مع العدو كعدو حتى يفقد سلاحه ، فإذا فقد سلاحه نتعامل معه كإنسان ، ستبقى معنا ، وستعاني من الجوع و الأمراض مثلما نعاني نحن ، و لن يصيبك مكروه ، إلا إذا حاولت الهرب

 لم أرد عليه ، وبقيت صامتًا

قال لهم

ـــ خذوه إلى السجن

وتم نقلي . وفي طريقنا شاهدت النمر الذي يخص جون قرنق و كذلك قرد صغير كان يربيهما ، لم يتم عصب عيني هذه المرة و لا تقييد يديّ ، كنا نسير و سط غابة جميلة جدًا و كثيفة و بمحاذات نهر النيل الأزرق ، وكانت الحراسة مشددة جدًا .
كان التاريخ إذ ذاك يوافق 03 يناير 1989 ، علمت أن السجن الذي قادوني إليه يسمى سجن " كوبر " قطعنا النهر ووصلنا إلى السجن ، الذي تم اختياره بعناية ، حيث يقع في وسط جبال تحيط به ، وكأن هذا السجن جزيرة ، وقد تم اختيار الموقع في منطقة يتفرع فيها النهر إلى قسمين ، ثم يلتقي من جديد مشكلًا جزيرة كبيرة نسبيًا ، وتم بناء أبراج مراقبة على حوافها و تطويقها بأشجار الشوك ، و في داخلها مجموعه من العشش " القطيات "

 دخلنا إلى السجن..

و أدخلوني في إحدى القطيات ، و اقفلوا المدخل بالألواح ، كان الوقت غروب الشمس مما يجعل المكان موحشًا ، والمكان مليء ببيوت العناكب ، و الفئران و الحشرات ، تفقدت المكان لا يوجد شيء على الإطلاق ، لا سرير و لا فراش و لا كرسي ، لا شيء اطلاقا ، خلعت حذائي و وضعته تحت رأسي كوسادة و استلقيت على الأرض ، و عرفت أنني سأعاني كثيرًا ، و لكنني أدركت بحس إيماني أن الإنسان لا يستطيع أن يغيّر ما قدره الله

مكثت في هذا السجن سنتين تقريبًا ، في بداية الأمر بدا الأمر سيئًا جدًا ، عانيت من الأمراض الملاريا ، الدسنتاريا وعانيت من الجوع ، كان الأكل عبارة عن عصيدة يتم تحضيرها من الذرة " سبول مُر " يتم طحنه ثم غربلته و من ثم طبخه في الماء ، و يقدم مع عدس أو فاصوليا في حال توفرهما أو مع أوراق أشجار بعد أن تطبخ ، لم يكن هناك أي عنصر آخر ، لا ملح ، ولا فلفل ، ولا طماطم أو بهارات أو بصل . لا يوجد شيء من هذا على الإطلاق . كانوا يصنعون بعض الملح و ذلك عن طريق جمع الرماد في علبة يتم ثقبها من الأسفل عدة ثقوب ، و يتم رش الرماد بالماء و تترك العلبة فوق صحن كبير ، و بعد أن يتجمع شيء من الماء من خلال الثقوب ، يتم وضع الصحن فوق النار حتى يتبخر الماء و يبقى ملح بطعم لاذع ، يتم خرط الملح و خلطه مع شطة ــ والشطة نوع من الفلفل الأخضر الصغير تنبت في الجبال ــ و بالتالي يحصلون على نوع من البهارات مثل الهريسة ، لتعطي بعض النكهة للأكل

الأكل مرتان وجبة إفطار عند الساعة الحادية عشر صباحًا . و الأخرى عند الساعة السادسة مساءًا و هي وجبة عشاء ، ورغم رداءتها ورائحتها الكريهة ، لم تكن الوجبة كافية ، كنا نشرب الماء قبل الوجبة و بعدها حتى نشعر بالشبع الجزئي ، كان اليوم يمرّ بصعوبة بالغة ، أقوم باكرًا بسبب كفايتي من النوم ، و مع طلوع الشمس يتم فتح المدخل الذي كان يغلق بالأخشاب ، و أقوم بمراقبتهم وهم يعملون مثل خلية نحل ، البعض يذهب ليأتي بالحطب ، و بعضهم لإحضار الماء بواسطة نصف برميل يحمله اثنان منهم إلى النهر ، و بعضهم يقوم بإشعال النار ، و بعد أن يتم احضار الذرة يقوم بطحنها اثنان حيث توجد شجرة ميته تم قصها ، وحُفِرَ تجويف بداخلها ، يتم وضع الذرة فيها و طحنها بواسطة عرف شجرة آخر تم تجهيزه لهذا الغرض ، بعد أن تطحن الذرة و تنقّى من القشور يتم وضعها في برميل الماء و يعمل منها العصيدة ، أما القشور فتنقع و يعمل منها " مريسة " ــ وهو نوع من الخمور ــ ، هناك كل شيء يستفاد منه لا توجد قمامة ــ اكرمكم الله ــ .
وقت طويل يمرّ و أنا انتظر ما أسد به جوعي ، عند الحادية عشر تقريبًا يكون الإفطار جاهز ، طبعا عندما يحضره أحدهم استعد للتوقف عن التنفس حتى لا أشم الرائحة الكريهة ، لم تكن هناك مواد تنظيف ، والذين يشرفون على إعداد الطعام ، يعملون من الصباح في وهج الشمس الحارقة ، ويتعرضون للدخان المنبعث من النار لساعات طويلة ، ولكم أن تتصوروا ما ينبعث من أجسادهم من روائح نتيجة العرق والغبار وقلة مواد التنظيف

كنت قد استأذنتهم الذهاب للاستحمام يوميًا في النهر عند الساعة الثالثة ، و كان طلبي في هذا التوقيت حتى أكسر الوقت من جهة ، و من جهة أخرى لأن هذا الوقت شديد الحرارة ، أخترته لأشعر بشيء من الانتعاش ولو لوقت قصير ، و بعد العودة استمر في الجلوس حتى و قت العشاء ، و بعدها يتم إغلاق المدخل ، و أبقي في الداخل مع نفسي .. وأبأ رحلة أخرى مع الظنون في المصير الذي ينتظرني ، وفي أهلي ، وكيف يتعاملون مع غيابي !

أستمر هذا الوضع بشكل يومي ، بل وروتيني ، و أحسست بأنني سأدخل في اكتئاب إذا لم أغير نمط برنامجي هنا ، فقررت التغيير ، وقررت أن أتعايش مع الوضع القائم كيفما كان .

يتبع   03

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق