الثلاثاء، 4 يناير 2022

 قصة تواجد القوات الجوية الليبية بالسودان .... الحلقه 5

نقلا عن الطيار : Suliman Elshtiti

01

 في الصباح الباكر يأتي عمال النظافة و بعد الانتهاء من التنظيف يأتون بكأس حليب وآخر ماء و يتم تغيير الوسادة و الفوط و الشراشف ، كان الأمر رائع و بدأت أشعر بالراحة . أطقم طبية أثيوبية ممتازة الأكل يقدم ثلاث مرات إفطار و غذاء و عشاء ، و كان طعامًا شهيًا . .

بعد أيام من إقامتي ، صرت أعرف روتين العمل بالمصحة ، و مواعيد فصل الأطقم المناوبة ، و أوقات خروج الأطباء .
وبدأت أفكر بطريقة ما للهروب .
خمّنت بأنني استطيع الهروب ، خاصة أن نافذة الغرفة منخفضة ، و كانت مقابلة المدخل الرئيسي ، و كنت أشاهد حالات الدخول و الخروج و مواعيد الزيارة والحركة في المدخل كانت على مرمى بصري .
. وحين عرفت كل شيء . قررت الهروب
كانت هناك طبيبة شابة و كنت ارتاح لها واعتقد انها كانت تشفق علي ، فطلبت منها اقراصًا منومه بحجّة أنني أتألم و لا استطيع النوم ، فوافقت ، أخذتها منها و لم أقم بتناولها ، بل تظاهرت أنني شربتها مع الماء ، طبعًا الحرس المرافق لم يكن يعرف شيء عن هذه الأقراص ، لأنه لم يكن يتحدث الإنجليزية ، و كررت طلب الأقراص عدة مرات ، وصار عندي ثلاثة أقراص ، و عندما حان الموعد دخلت الى دورة المياه و قمت بغسل الأقراص حتى أزلت المادة المحلّاة التي تحيط بالقرص و أصبحت ذات لون ابيض ، و ضعت الأقراص بورقة و طحنتها حتى أصبحت مثل البودرة ، ومن ثم اخفيتها .
و في صباح اليوم التالي بعد أن تم تغيير الحرس و بعد مرور الأطباء ، وضعت البودرة في أحد الأكواب ، سكبت الحليب فوقه وسكبت الحليب في الكوب الآخر كذلك ، و قدمت الكوب الذي يحتوي المنوّم للحارس ، و لكنه بعد أن أخذ رشفة ، سألني :
ـــ ما الذي وضعته بالكوب ؟ فقد كان طعمه مر !
قلت له :
ـــ حليب ..
أخذ الكوب الآخر و تذوقه و طلب مني شرب الكوب الذي به المنوم ، شربت منه قليلًا و قلت له :
ـــ نعم .. إنه مرّ ..
و قمت بسرعة إلى الحمام و غسلت الكوب ، وقلت له :
ـــ ربما المرارة من بقايا أو أثار داخل الكوب !
ظني أنه لم يشك في الأمر ، و لكن المفاجأة أنه سرعان ما أستسلم للنوم ، و لم أعرف هل نام بسبب المنوّم أو أنه يتظاهر بذلك !!
و قررت أن أبقى في السرير حتى أتأكد من أنه نام ، و استلقيت ، و لم أدرِ ما الذي حدث بعد ذلك !
يبدو أنني نمت أنا أيضًا . و لا أدري كم مرّ من الوقت ، اعتقد انه اليوم التالي ، لقد كانت الجرعة كبيرة .
لكن عندما فتحت عيني ، وجدت أمامي الدكتور مدير المستشفى وهو برتبة عميد ، و ضابط أمن اثيوبي يدعى " أبرها " و الدكتور " شاو " .
كنت خائفًا جدًا ، فقد خالفت الأوامر ..
تحدث الضابط الأثيوبي و سألهم :
ـــ هل يعرف الإنجليزية ؟
فاخبروه بالإيجاب ، ولكنه فضل الحديث معي بالعربية و قال لي :
ـــ هل ترغب في العودة إلي ليبيا ؟
لم أرد عليه و فضلت السكوت ، فقال لي :
ـــ سيتم نقلك إلى مكان آمن .
وما هي إلا دقائق ، حتى أمروا بنقلي إلى فندق صغير اسمه " زمن هوتيل " قضينا ليلة مع حراسة مشددة .

02

 و في اليوم التالي نقلت إلى سجن التحقيق المركزي . central Investigation prison

طبعا تم نقلي و لم أكن مقيد اليدين ، و كنت أشاهد الطريق و كل ما يجري في وسط أديس أبابا ، وقفت السيارة أمام مبني جميل في قلب أديس أبابا ، نزلنا و دخلنا ، كان المبني كأنه وزارة ، جميل حتى من الداخل ، الفرش الأحمر يغطي الممرات و السلالم ، صعدنا إلى الطابق الثاني ، دخلنا مكتب شخصية كبيرة ، جلسنا في المكتب ، تبادلوا التحية فيما بينهم ، و من ثم تبادلوا الحديث بعيدًا عني ، لم أستمع إلى حديثهم ، رغم محاولتي استراق السمع ، خرجنا من المكتب و مشينا إلى نهاية الممر ، فتح باب من الخشب الجميل .
و بعد أن دخلنا ، كانت المنظر مرعبًا !
باب حديد يشبه أبواب السجون مطلي باللون الرصاصي ، تم الطرق على الباب ، فإذا بصوت عمود حديدي يسحب و صوت الاقفال تفتح ، و فتح الباب عسكري أثيوبي ، تحدث مع " أبرها " و أعطاه كتاب مطوي ، لم يفتحه و سمح لنا بالنزول من السلم الحديدي الذي كان بشكل دائري ينتهي بباب آخر من الحديد تم فتحه بواسطة العسكري الذي كان في المقدمة ، كانت هناك غرفة دخلناها ، بها مكتب قديم و كراسي شبه متهالكة ، وجلسنا ..
غادر الجميع ما عدا أنا و الدكتور " شاو " .
والدكتور " شاو " هو طالب طب في السنة الأخيرة ، ألتحق بحركة تحرير السودان و تم الاستفادة منه كطبيب عسكري وتم ارساله معي ، وبعد أن تقرر ادخالي السجن ، تم تكليفه بمرافقتي كحارس ، ولا أظن أن من في السجن وادارته لهم علم بذلك ، هم يعرفون فقط اننا نتبع جون قرنق و أن سبب وجودنا بالسجن مخالفة ارتكبناها .
تم تفتيشي و أخذوا مني الأدوية و خيوط الحذاء الذي كنت أرتديه ، ولم يبقوا على شيء لدي إلا الملابس ، ثم تم اقتيادنا عبر ممر الى ساحة بها مبني كبير و محاط بسياج مرتفع و اسلاك شائكة و أبراج مراقبه بها جنود يصوبون بنادقهم نحونا ، سرنا يمينا حتى أصبح المبنى يسارنا و في المقابل دورة مياه ــ اكرمكم الله ــ و في الجانب الأيمن فناء كبير ، كان المكان به العديد من النساء السجينات ، و قفنا في بداية المبنى ، أعطى الأمر للنساء بدخول الغرف ، حيث كانت حوالي خمس غرف بالمبنى أبوابها في اتجاه الفناء .
بعد دخول النساء ، تم نقلنا الي الغرفة الأخيرة التي تقع بجوار دورة المياه ، تم فتح قفل الغرفة و استدعاء اثنان من السجينات لإحضار فراشان ، دخلنا إلى الغرفة ، كانت تقريبا مساحتها 4 متر × 5 ، كانت مبنية من الحجارة و حجم الجدار 40 سم ، لا يوجد بها نوافذ ، بها فقط باب حديد به شباك صغير مرتفع نسبيا ، يوجد مصباح خارج الشباك الذي عبره يدخل الضوء و الهواء ، كما يوجد مكبر صوت خارج الباب متصل براديو في الخارج .
قفل الباب بعد دخولي أنا و الدكتور " شاو " . لقد أصبح سجينًا معي في السجن المخصص للنساء كي لا نختلط بأحد .
كان الأكل عبارة عن ثلاث أرغفة من الحجم الصغير مع ترمس به ثلاث أكواب شاهي لكل شخص ، ويسمح لنا بزيارة الحمام ثلاث مرات في اليوم ، في الصباح الباكر و منتصف النهار و آخر النهار ، أما في غير هذه الأوقات يتم الطرق على الباب و تتم الموافقة بعد دخول النساء إلى غرفهن ، حيث أن الحمام مشترك بيننا على يسار غرفتنا و هو عبارة عن غرفة مستطيلة بها عدد من دورات المياه و مجموعة من احواض الغسيل .

  

03

  كانت تلك الليلة من أصعب الليالي التي مررت بها ، ربما لأنني قد تعوّدت في الأيام الأخيرة على إقامة مرفهة في المستشفى ، و لكن الأمر تغير بعد أن كنت قريبًا من الحرية أجد نفسي قد عُدت و بقوة لقيود الأسر ، و في سجن مشدد الحراسة .

فلم أنم من آلام السجن و الجوع كذلك .
وبعد أيام قضيناها ، لم يستطع الدكتور " شاو " الاحتمال ، قمنا باستدعاء الحرس عن طريق الطرق على الباب ، و بعد أن أتى حاولنا الحديث معه فلم تكن بيننا لغة مشتركة ، حيث أنه لا يتكلم إلا " الامهرية " ، فقام باستدعاء إحدى الفتيات السجينات وتدعى " سهلو " وكانت فتاة ذات بشرة حنطية جميلة ، و مثقفة و كذلك ذكية . كانت تترجم له ما نريد ، و تترجم لنا ما يجيب به هو ، وكانت خلال الترجمة تحاول أن تسألنا عن سبب وجودنا و من أين نحن و العديد من الأسئلة الشخصية ، وكنا نجيبها أثناء الحديث ، كذلك أخبرناها إننا نحتاج الى الأكل و العلاج و الهواء والشمس قبل كل شيء ، و بعد أن وصلت رسالتنا إلى إدارة السجن ، تمت الموافقة على ترك باب الغرفة مفتوحًا على أن لا نغادر الغرفة الا بإذن الحرس في البرج المقابل للغرفة . فلم أغادر المدخل ، كان الهواء نقي و نستمتع بضوء الشمس ، وبمنظر الزرع الجميل في الفناء ، و كذلك كنا نتابع السجينات أثناء ذهابهن للحمام و العودة منه ، و أثناء تجولهن في الفناء ، حيث كان مسموحًا لهن ذلك .
أما فيما يخص طلبنا بتحسين الأكل فلم يستجيبوا لهذا الطلب ، لسبب عرفته فيما بعد ، انه لا يوجد لديهم مطبخ أساسًا ، فقد كان أهالي السجناء هم من يأتي لهم بالأكل و ما يحتاجون من صابون و معجون حلاقة و أسنان وغيرها من المستلزمات اليومية .
وافقوا للدكتور " شاو " بأن يكتب رسالة لمكتب الحركة التابع لجون قرنق ، وأوعزوا للسجينة " سهلو " أن تزودنا بورقة و قلم .
و بعد أن وصلت الرسالة ، أرسلوا لنا بعض الاحتياجات و بعض الأكل مرة واحدة ، و عادت المعاناة من جديد ، وحيث أن الجوع لا يمكن تحمله ، فقد كررنا الشكوى حول موضوع الأكل ، و للأسف لم تكن هناك استجابة .
لكن السجينة " سهلو " أخبرت " باقي السجينات عن معاناتنا ، فكنّ يتعاطفن معنا إلى أبعد حد ، و كنا يبعثن لنا بالأكل من حين لآخر ، في البداية كان الأمر صعب ولم نقبل به ، و لكن مع اصرارهن وتحت وطأة الجوع تنازلنا عن بعض الكبرياء !!
كانت إحدى السجينات وتدعى " ازب " ، وسجينة أخرى قد لفتتا انتباهي ، كانت السجينة الأخرى امرأة في الأربعينات من العمر تدعى " قنة مبرات " فقد كانت سجينة مميزة ذات شخصية قوية كانت ترتدي ملابس سوداء و تضع على رأسها وشاحًا أسودًا ، و يظهر عليها الحزن الشديد في معظم الأوقات ، كانت تبدي اهتمامها بنا ، و كنا نتبادل التحية عند مرورها أمام غرفتنا أثناء ذهابها أو عودتها .
.
نعم كان يظهر عليها انها شخصية ذات شأن ، و علمت فيما بعد أنها زوجة جنرال حاول الانقلاب على الرئيس الأثيوبي منغستو هيلامريم ، و بعد أن اكتشف أمره تم إعدامه عن طريق ربطه بسيارة و جرّه بمدينته اسمرا حتى أصبح أشلاء على طرق المدينة ، و نُكّل بأسرته ، و وُضعت زوجته بالسجن ، و هي منذ تلك الحادثة لم تنزع الثياب السوداء ..
فقد كانت تحاول أن تعرف أي شيء عنا وعن سبب وجودنا ، وفي أحد الأيام أتت للغرفة لتقدم لنا بعض الأكل ، بعد أن أخذت الإذن كالعادة ، و كان حينها الدكتور " شاو " نائمًا ، فانتهزت الفرصة و قلت لها :
ـــ أحتاج إلى مساعدتك ، هل توافقين ؟
فرحّبت دون تردد ، وقلت لها :
ـــ سأترك لك رسالة في الصحون بعد أن نتناول الأكل ..
و كانت من عادتنا أن نقوم بغسل الصحون وتركها على حوض الغسيل في الحمام . بعد أن سلمتني الأكل و غادرت ، قمت بوضع الأكل في الغرفة ، و أخذت القلم الذي كان بحوزة الدكتور " شاو " النائم ، و قمت بكتابة رسالة على ورقة علبة سجائر و هذا نصها على ما أذكر :
( بعد التحية . أنا طيار ليبي ، و أنا حاليًا أسير حرب لدى قوات جون قرنق ، و الدكتور " شاو " هو حرس شخصي تابع لجون قرنق ، اسمي " سليمان خليفة الشطيطي " ، اذا استطعتِ إبلاغ السفارة الليبية بمكاننا أكون شاكرًا ، و أن لم تستطيعي الرجاء حرق الرسالة و نسيان الأمر . ) .

 


04

 قمت بإعادة القلم في مكانه و اخفيت الرسالة في ملابسي ، و بعد أن أيقظت، الدكتور " شاو " و تناولنا الأكل ، حاولت أن أنتهي من الأكل بعده ، وأخذت الصحون و ذهبت بها إلى الحمام ، بعد أن أخذت الإذن بذلك ، و وضعت الرسالة بين الصحون بعد تجفيفها ، وكنت خائفًا جدًا من أن يُكتشف أمري ، ورجعت إلى الغرفة و أنا أدعو الله ..

و اطمأننت بعض الشيء عندما شاهدتها تذهب إلى الحمام فور وصولي للغرفة ، كنت متوترًا جدًا ، ورأيتها تعود و معها الصحون ، لم أغادر مدخل الغرفة حتى حصلت على إشارة منها ، وهي تقوم بنشر ملابسها على الحبال .
و سمعتها تقول :
ـــ لا تخف لقد أحرقت الرسالة ! و أريد رقم جواز السفر .
دخلت إلى الغرفة دون أن أجيبها ، وقد شعرت ملاحظة الحرس لما يجري بيننا من حديث .
و في اليوم التالي ، و كان أول أيام شهر رمضان المبارك ، إذ بمجموعة من العساكر قادمون و تم فتح الغرفة ، و تم نقلنا إلى سجن الرجال ، الذي كان يقع خلف هذا السجن مباشرة ، خرجنا من الغرفة و سرنا يمينًا ، وكنا كلما مررنا على غرف السجينات يقمن بتحيتنا ، ثم انعطفنا يمينًا ، كان هناك ثمة حارس ممسك بين يديه بسجل ، و يجلس على كرسي أمام باب كبير جدًا ، و أمامه طاولة ، و ضع السجل عليها و قام بكتابة اسمائنا و دوّن بعض المعلومات ، ثم أمر بفتح الباب ، وما أن فُتح الباب ، ولاح لي الداخل ،حتى أيقنت أني سأواجه أيامًا عصيبة قادمة !
فقد كان الداخل عبارة عن ممر طويل ، يأخذ شكل كأنه أنبوب ، وكان السقف مقوس ، و الأرضية شبه مقوسة أيضا لوجود غرف صغيرة لتصريف الماء في المنتصف ، بالممر غرف على اليمين تحمل الأرقام الفردية 1,3,5,7,9,و بعدها دورة المياه . و إلى اليسار غرف زوجية تحمل الأرقام، 0,2,4,6,8 ، و علمت فيما بعد أن أنظمة السجن تقضي بوضع السجين أول يوم بالغرفة رقم 0 والتي يتم ضربه فيها ضربًا مبرحًا ، و ينام بها دون أي خدمات ، و دون أي فرش يقيه من الأرض ، و في اليوم التالي ينقل إلى الغرفة رقم 7. و التي كانت مقسمة من الداخل اإلى أربع زنزانات صغيرة ، و يبقى بها السجين مدة أسبوع كسجن انفرادي دون مخالطة أحد ، و بعدها يتم نقله إلى إحدى الغرفة الأخرى التي تحوي ما بين سبع مساجين إلى خمسة عشر سجينًا . و يكون مسموحًا لهم بالخروج في الرابعة مساء إلى فناء السجن ، وبممارسة هواياتهم ، النحت ، الرسم ، الرياضة ، كما يسمح لهم بمشاهدة التلفاز من الساعة 8 مساءًا إلى العاشرة .
أمّا نحن ، فالحمد لله أننا لم ندخل الغرفة 0 ، تم ادخالنا مباشرة الغرفة رقم 7 و التي هي عبارة عن ممر و به أربع زنزانات اثنتان على اليسار و اثنتان على اليمين ، كان من نصيبنا الزنزانة الأولى على اليسار ، كانت صغيرة إلى درجة انها أقل طولًا من طول الفراش ، ظني أن مساحتها لا تتجاوز 1.5 متر × 1.5 تقريبًا ، لعلها كانت مصممة كسجن انفرادي لشخص واحد ، وإذ بهم يضعوننا بها أنا وحارسي " دكتور شاو " ! ، وضعنا الفراش ، لا شيء في الغرفة غير الحوائط من جميع الاتجاهات ، وباب حديد به نافذة صغيرة جدًا ، لا يزيد مقاسها 30×30 سم . يدخل من خلالها الضوء و الهواء ، كان الأمر صعبًا جدًا ، مع عدم السماح لنا بالاختلاط !
وبرزت من جديد مشكلة الأكل خاصة في شهر الصوم ، كانت الوجبة عبارة ثلاث أرغفة صغيرة مع ترمس به ثلاث أكواب شاي ، تسلم صباحًا الى اخر النهار ، حيث نقوم بتسليم الترمس فارغًا ، فكرت في التوقف عن الصيام ، و لكنني كنت في أمسّ الحاجة للتقرب إلى الله ، وأعرف أن العبد أقرب إلى ربه في سجوده ، وأظن أنه يقترب منه أيضًا في صومه ، فقررت مواصلة الصيام ، الا اذا شعرت بضعف .
وكثيرًا ما يحمل العُسر في طيّاته اليُسر .
وما كاد يمضي يومان أو ثلاث ، حتى جيء
لنا بأكل دسم ، قال الحارس الذي أتانا به ، انه من طرف السجينة " سهلو " ، بعد أن علمت اننا لم نغادر السجن بل نقلنا إلى سجن الرجال . وبعد أن علم السجناء أننا غرباء ولا أحد يأتي إلينا باحتياجاتنا ، وأن السجن لا يقدم لنا شيئًا ، صاروا يتسابقون على مساعدتنا ، خاصة بعد أن علموا أنني أصوم و كان منهم مسلمين ، و قد كان منهم وزراء سابقين و رجال أعمال و طيارون و رجال دين ، الحمد لله أنه لا ينسى أحد .

05

 كانت أيام صعبة جدًا ، كان المكان مليء بالحشرات كالقمل والبق ، لم يكن مسموحًا بالاستحمام إلا في الصباح الباكر ، و كانت المياه باردة جدًا ، فلم تكن هناك سخانة مياه ، و لكننا كنا مجبرين أن نستحم يوميًا حتى لا تهاجمنا الحشرات ، حاولنا المحافظة على نظافة المكان قدر المستطاع ، لم يسمح لنا بمغادرة الشيلة إلا ثلاث مرات يوميًا لغرض قضاء الحاجة أو في الحالات الطارئة ، قضينا شهر رمضان بهذه الحالة و كان الجميع يستغرب أمرنا ، حيث انه يفترض أن نخرج من الزنزانة بعد أسبوع ، فلا يوجد أكسجين كافٍ ولا شمس ، ولا يمكنك التحرك في مثل هذه المساحة الضيقة جدًا ، الجميع تعاطف معنا ، لم يكن أمامنا إلا تعويد أنفسنا على هذا الوضع ، وأن نحتمل ، وأنا أعرف صعوبة احتمال هذا الوضع المزري ، كنت استمع مرات عديدة لبعض المساجين يتحدثون بشأننا مع الحراس . الدكتور " شاو " هو الآخر لم يعد يحتمل المزيد من المعاناة ، و كتبنا عدة رسائل دون أن نلقى إجابة ، كنا نعاني الظلمة ، لم نرَ الشمس في النهار ولا كنا نرى السماء ، كنا بالكاد نرى الضوء الصناعي من خلال نافذة الباب الرئيسي للغرفة رقم 7 التي لا يزيد مقاسها عن مقاس بلاطة 30 × 30 ، هذه الفجوة في أعلى الباب كانت المعبر الوحيد للضوء ، كنت خائفًا من تأثير ذلك على نظري وجسمي وقواي العقلية أيضًا .

وفي نهاية شهر رمضان و تحديدًا يوم كبيرة العيد ، أخبرنا الحارس الذي أصبح متعاطفًا معنا بدرجة كبيرة ، أن مدير السجن عادة ما يقوم بزيارة السجناء يوم العيد ، و انه سيترك لنا الأبواب مشرّعة مفتوحة ، وعلينا أن نخبره بعد أن يدخل علينا للمعايدة بأننا لن نستطيع الاحتمال في ظل هذه الظروف السيئة .
وبالفعل ، أتى مدير السجن ، وهو رجل أربعيني يرتدي بدلة جميلة رصاصية اللون و ربطة عنق ، و قام بزيارة الغرف واحدة تلو الأخرى ، و كنا نقف خلف باب الغرفة خارج الزنزانة و نراقبه ، كان يدخل الغرف و بعد المعايدة كان يستمع إلى شكاوى السجناء ، وعندما مرّ من أمام غرفتنا ألقى علينا التحية ، لكنه لم يتوقف و أكمل طريقه ، ودون تفكير فتحت الباب وخرجت وأمسكته من يده ، حاول الحرس منعي ، و لكنه طلب منهم أن يتركوني . و قال لي :
ـــ ما عندك ؟
فقلت له :
ـــ يا سيد الفاضل ، كل عام وأنت بخير ، أنت تعلم جيدًا أننا لم ترتكب جُرم في حقكم حتى نعاقب عليه بهذه القسوة ، وأنت تعلم أيضًا أن من أبسط حقوق الإنسان ، الهواء ، و العلاج ، الحركة . و الأكل . لقد مرّ علينا أكثر من شهر في هذه الزنزانة الصغيرة ، و إننا لن نستطيع الاحتمال أكثر . نأمل منكم إيجاد حل عاجل .
ابتسم لي ، و تحدث مع أحد مرافقيه ثم قال لي :
ـــ سيتحسن وضعكم .
في نفس اليوم سُمح لنا بترك الغرف مفتوحة ، و كذلك الخروج عند الساعة الرابعة إلى الممر لشرب الشاهي و القهوة و كذلك الخروج للفناء مع باقي السجناء ، و كذلك مشاهدة التلفاز معهم .
لقد كانت نقلة كبيرة جدًا كما ترون ..


يتبع 6

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق